إعداد الأستاذ الدكتور كارم السيد غنيم*
نال الإعجاز العلمي والتفسير العلمي للقرآن الكريم القبول والتقدير من كثير من الناس، كما أنه تعرض للرفض والإنكار من قبل البعض وذلك لا يقلل من أهميته ولا يهون من حقيقته أو ينال منها، إذ إن الاختلاف في الرأي والتباين في الفهم من ظواهر الفكر وسنن التفكير بين البشر، خاصة في الموضوعات التي يكون للعقل والمنطق فيها دور أكبر من دور الحس والمشاهدة. (…)
المعارضون للإعجاز العلمي في القرآن الكريم
فئات المعارضين:
هم فئات ثلاثة، من حيث الدوافع إلى المعارضة:
– الفئة الأولى: تخشى على مصداقية القرآن إذا ارتبط تفسيره بالعلوم الكونية وما بها من معلومات متغيرة، مما ينعكس على استقرار التفسير العلمي للقرآن الكريم، كما يخشون على تطويع معاني الكلمات ومدلول الآيات بما وصلت إليه العلوم الكونية، وهو ما يعرف عند المعارضين بـ ( لَيّ أعناق الآيات القرآنية ) فهم يرفضون الإعجاز العلمي والتفسير العلمي إذن من باب الحرص على القرآن الكريم، ونطلق عليهم ( فئة المتخوفين ).
– والفئة الثانية: لا ترى دليلاً على الإعجاز العلمي ولا ترى في كلمة ( الكتاب ) وكلمة
( شيء ) الواردتين بالآيات القرآنية دليلاً على عكس ما يراه المؤيدون فعندهم معنى الكتاب هو ( اللوح المحفوظ) أو ( أم الكتاب ) وتكتفي هذه الفئة بالإعجاز اللغوي والبياني… وتقول بأن القرآن كتاب هداية وتشريع… ونطلق عليهم ( فئة المعطلين ).
– الفئة الثالثة: ترفض الإعجاز العلمي بسبب نظرتها الإلحادية وكفرها بالقرآن أو بسبب الحسد والحقد على القرآن لتفوقه على سائر الكتب الدينية وانفراده بالإعجاز الشامل ومنه الإعجاز العلمي، ونطلق عليها ( فئة الجاحدين الحاقدين ). (…)
مقتطفات من أقوال المعارضين
حركة الرفض للتفسير العلمي والإعجاز العلمي، إحداها – أو كلها – هي كما قلنا، من قبيل الخلافات في الرأي التي هي من ظواهر التفكير البشري وربما بدأت بصورة واضحة من بعض المفسرين – في القرن السادس الهجري كرد فعل على ما فعله المفسر الفخر الرازي باستخدامه للمعارف الكونية في تفسيره للقرآن الكريم، وذلك باب من الاجتهاد والتوسع في شرح آيات القرآن الكريم التي تتحدث عن آيات الله الكونية وربما وجد معارضوه في عمله هذا، ومن وجهة نظرهم خروجاً على منهج التفسير التقليدي الذي ألفوه، ووجدوا منه إسرافاً في استخدام المعارف العلمية في التفسير.
ولقد تزعّم الشاطبي في أواخر القرن الثامن الهجري حركة الرفض، وكان اعتراضه على المبالغة والتجاوز، وفسره بالتوسع في استخدام المعارف الكونية في تفسير القرآن الكريم، واستمر الرفض إلى يومنا هذا من بعض العلماء المسلمين، وخاصة في مواجهة الإسراف والتهافت العلمي. ولا شك أن المؤيدين للإعجاز العلمي والتفسير العلمي يطالبون بوضع وإتباع منهج علمي في التعامل مع كل ما يتعلق بدراسة القرآن الكريم ويرفضون كل تجاوز في التفسير العلمي وسوف نؤكد ذلك ونوضحه في الفصول اللاحقة… وفي هذه الفقرة نقدم مقتطفات من أقوال المعارضين ونعقب عليها، بل ونرد عليها من أقوالهم:
1- الشاطبي: هو إبراهيم بن موسى النجمي ( 790هـ ) وهو أشهر من حمل لواء الرفض من القدامى للتفسير العلمي، وتأثر بأفكاره وتابعه في الرفض بعض من جاء بعده من العلماء، قدامى ومحدثين، حتى يمكن القول أنه مؤسس رابطة المعترضين. فقد أعلن أن كثيراً من الناس تجاوزوا في الدعوى على القرآن وأضافوا إليه كل علم من علوم الطبيعيات والمنطق وعلم الحروف وجميع ما نظر فيه الناظرون من هذه الفنون وأشباهها. (…)
2- رشيد رضا: صاحب تفسير المنار – رفض التفسير العلمي والإعجاز العلمي اعتماداً على ما قاله الشاطبي ولعله في ذلك معذور لما شاهده من الإسراف وعدم الانضباط الذي صدر عن بعض المفسرين القدامى ومع ذلك، فهو لم يرفض الإعجاز العلمي بل قال: ( إن القرآن أبان كثيراً من آيات الله في جميع أنواع المخلوقات من الجماد والنبات والحيوان والإنسان، وقد عجز الزمان عن إبطال شيء منه… واشتمل القرآن على كثير من المسائل العلمية والتاريخية التي لم تكن معروفة في عصر نزوله ثم عرفت بعد ذلك بما انكشف للباحثين والمحققين من طبيعة الكون وسنن الله في الخلق… ). (…)
3- فضيلة الشيخ / محمود شلتوت وتلامذة له يقولون عن التفسير العلمي: ( إنهم طائفة المثقفين الذين أخذوا بطرف من العلوم الحديثة ثم نظروا في القرآن وتأوّلوا على نحو زيّن لهم أن يفتحوا في القرآن فتحاً جديداً، فأفسد ذلك عليهم أمر علاقتهم بالقرآن… هذه النظرة إلى القرآن خاطئة من غير شك، لأن الله لم ينزل القرآن ليكون كتاباً يتحدث فيه إلى الناس عن نظريات العلوم ودقائق الفنون وأنواع المعارف، ولأنها تحمل أصحابها على تأويل القرآن تأويلاً متكلفاً…(…)
4- ” عباس محمود العقاد ” في الربط بين القرآن والعلوم، قال: ( فلا يطلب من كتب العقيدة أن تطابق مسائل العلوم كلما ظهرت مسألة منها لجيل من أجيال البشر ولا يطلب من معتنقيها أن يستخرجوا من كتبهم تفصيلات تلك العلوم كما تعرض عليهم في معامل التجربة والدراسة). (…)
ردود على المعترضين
الاعتراض الأول: ويتمثل في قولهم: القرآن كتاب هداية وتشريع وليس كتاباً للعلوم والمعارف الكونية.
والجواب على ذلك أن كل المشتغلين بدراسة الإعجاز العلمي يؤمنون بأن القرآن الكريم كتاب عقيدة وتربية وتشريع، وهو بعيد كل البعد عن تناول العلوم بمنهجية التدريس، ويرون أن الآيات القرآنية في المسائل الكونية إنما جاءت لتلفت النظر إلى ملكوت السموات والأرض وتدعم الإيمان بالله المبدع الخالق القادر، وحيث أنها نزلت بالحق من لدن عليم خبير فلابد أن تكون حاملة لحقائق، فهي ليست مجرد عبارات إنشائية وصفية تناولت ظاهر الأمور.
الاعتراض الثاني: ويتمثل في قولهم: الاهتمام بالإعجاز العلمي يصرف اهتمام الناس بعلوم القرآن التقليدية، والتفسير العلمي يتعارض مع منهج التفسير.
والرد أن الإعجاز العلمي لا يخرج عن كونه وجه من وجوه الإعجاز القرآني، ودراسته تعتبر إضافة إلى علوم القرآن، والمشتغلون به فريق من العلماء يتعاونون مع سائر المشتغلين بدراسة علوم القرآن (…). أما التفسير العلمي فلا تعارض بينه وبين التفسير التقليدي، بل هو إضافة إليه مما يزيد الاتساع في فهم القرآن، خاصة في الآيات الكونية التي كانت تدخل في دوامة التأويل والمجاز وأحداث الآخرة…. الخ.
الاعتراض الثالث: ويتمثل في الاتهام بعدم التقيد بالمفهوم اللغوي الصحيح للنص القرآني، وإبعاد الكلمات القرآنية عن معانيها فيما يعرف بـ “ليّ أعناق الآيات” وهي عبارة يرددها المعارضون، بل ويكثرون من ترديدها.
والرد عليه: أنه من المعلوم أن هناك قواعد وضوابط ومنهجًا يجب أن يلتزم به المشتغلون بدراسة الإعجاز العلمي وبالتفسير العلمي للقرآن الكريم، ومن أهمها: احترام كافة المعارف والشروط اللغوية. ومن الضروري أيضاً أن يتعاون علماء الكونيات وعلماء الدين وعلماء اللغة معاً في تلك الدراسات القرآنية وفق منهج الدراسة المتفق عليه. وإذا كان هناك من يخرج عن تلك القواعد والضوابط فليس ذلك حجة على الملتزمين بمنهجية الدراسات القرآنية.
الاعتراض الرابع: ويتمثل في الخوف من الربط بين تفسير القرآن وبين المعارف الكونية المتغيرة، مما يؤثر على مصداقية القرآن.
(…) نقول لهم إن غالبية المشتغلين بالتفسير العلمي للقرآن الكريم حريصون على الاستعانة بالمعارف المستقرة التي وصلت إلى مرحلة الحقائق والقوانين واليقين أو كانت نظريات راجحة. وعلى فرض التغيير في تلك المعارف العلمية المستخدمة في التفسير، فلا ضير في ذلك حيث أن الأمر لا يعدو أن يكون اجتهاداً في التفسير يمكن تصحيحه بتفسير آخر على ضوء المعارف العلمية. وسنجد أن النص القرآني استوعب تلك الكشوف الجديدة حيث جاءت النصوص بألفاظ جامعة تحيط بكل المعاني الصحيحة في مواقفها التي قد تتابع في ظهورها جيلاً بعد جيل، إما بالإضافة أو الزيادة وإما بالتعديل أو الحذف، واتساع مدلول دلائل الإعجاز القرآني البياني. علماً بأنه لا يمكن أن يقع ذلك التغيير إلا إذا كان هناك خلل في فهم النص القرآني أو خلل في قطعية العلم.
والمشتغلون بعلوم القرآن يعلمون أن تفسير القرآن الكريم هو جهد بشري واجتهاد فكري، ولهذا نجد المفسرين يختلفون في تفسير بعض النصوص القرآنية بسبب تنوع معاني الكلمات، (…) وهناك أسباب كثيرة للاختلاف فيما بين وجهات نظر المفسرين، وينعكس هذا بوضوح على التفاسير بحيث تظهر الخلافات فيما بينهم، وبالرغم من هذا لم توجه الانتقادات إلى المفسرين في اختلافاتهم ولم يطالب أحد بالتوقف عن تفسير الآيات القرآنية.(…)
نطمئن بأنه لا خوف من تغيير المعلومات الكونية المستخدمة في التفسير العلمي، ما دام النص القرآني ثابتًا ومحفوظًا، وأي أخطاء في التفسير يجب أن ترد إلى المفسرين، دون أن يؤثر هذا على مصداقية القرآن الكريم. ومرحلية التفسير وتبديله أمر وارد من أعمال البشر، فليس هناك تفسير مستقر يجمع عليه المسلمون في كل العصور إلا إذا كان قد صدر عن رسول الله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وهذا لم يحدث، فإذا قام اعتراض وأثيرت المخاوف حول التفسير العلمي فليكن كذلك مع كل التفاسير ولتحذف جميعها وهذا أمر غير مقبول ولا معقول !!
الاعتراض الخامس: ويتمثل في ادعائهم بأنه ليست هناك فائدة من وراء الإعجاز العلمي أو التفسير العلمي.
هذا اعتراض في غاية السطحية حيث إن دراسة الإعجاز العلمي تتعلق بحقيقة يجب التعرف عليها وتقريرها وإظهارها، وهذا أمر مطلوب في كافة فروع المعرفة وعلى وجه الخصوص عندما تتعلق بالقرآن الكريم، ذلك الوحي الإلهي ومعجزة الإسلام… والفوائد من وراء معرفة الإعجاز العلمي للقرآن الكريم كثيرة، وخاصة في مجال العقيدة والإيمان، وفي مجال الدعوة والإقناع في عصر الثقافات العلمية.
أما عن التفسير العلمي للقرآن الكريم، فهو بلا شك توضيح وبيان لآيات القرآن الكونية، مما يحقق فهمها على حقيقتها، بعيداً عن متاهات التأويل وتسطيحات تفسير الآيات الكونية… وذلك يحقق مزيداً من الفهم السليم للقرآن الكريم، وهو أمر هام ومطلوب.
الاعتراض السادس: (…) يحتج بعض المعارضين في معارضتهم بعدم وجود ما يدل على الإعجاز العلمي للقرآن الكريم، لا عقلاً ولا نقلاً وبأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يذكر شيئاً عن ذلك.
أما الدليل العقلي فهو من الوضوح بحيث لا يخفى على أحد ويتمثل في القرآن الكريم بما اشتمل عليه من الآيات القرآنية الكونية التي تحمل الحقائق والإشارات العلمية غير المسبوقة، والتي كانت مجهولة وقت نزول القرآن، وبعد مضي مئات السنين – وفي العصر الحديث على وجه التحديد – أمكن لعلماء الكونيات – مسلمين وغير مسلمين – أن يتعرفوا على بعضها، وأكدوا مطابقة الاكتشافات لها وأعلنوا ذلك في مؤتمرات وندوات عالمية، وسجلوه في أبحاثهم وأصبح هذا الأمر معروفاً ومستقراً، وتحررت عنه عشرات الكتب التي تبحث في الإعجاز العلمي. (…)
أما الاحتجاج بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يذكر لصحابته شيئاً عن الإعجاز العلمي فمردود عليه بأنه صلى الله عليه وسلم أكد على معجزة القرآن والصحابة آمنوا بذلك وبأن القرآن مطلق الإعجاز، ولم يدخلوا في تفاصيل وجوه الإعجاز إلى أن جاء العلماء فيما بعد فقاموا بدراسات تفصيلية للقرآن الكريم، ومنها وجوه الإعجاز القرآني.
أضف إلى ذلك أنه لم يكن من الحكمة أن يحدث الرسول صلى الله عليه وسلم صحابته عن الإعجاز العلمي، ولم تكن ثقافتهم تستوعب ذلك بعد، وكانت المعارف الكونية والحقائق العلمية مجهولة للعالم أجمع في ذاك الزمن، ولو حدثهم بذلك لتصادم مع عقولهم، وهو الحريص صلوات الله وسلامه عليه على مخاطبة الناس على قدر عقولهم. لهذا ترك الصحابة يفهمون الآيات الكونية الواردة في القرآن الكريم بالمعنى اللغوي وبالمفهوم العام، تاركاً البيان والوضوح العلمي والاكتشافات الكونية لتظهر وجه الإعجاز العلمي للقرآن في الزمن المناسب، وقد تحقق ذلك بعد مرور ما يزيد على ألف عام وصدق الله العظيم القائل في القرآن الكريم:{ ولتعلمن نبأه بعد حين} [سورة صاد]
الاعتراض السابع: ويتمثل في قولهم إذا كان الإعجاز العلمي للقرآن الكريم قد تكشف لغير المسلمين من علماء الكونيات، فلماذا لم يؤمن هؤلاء بالإسلام.
نرد على ذلك بأن العلماء غير المسلمين الذين تعرفوا على بعض الإشارات الكونية الواردة في القرآن الكريم ودرسوها على ضوء ما لديهم من المعارف العلمية قرروا بأن هذا الذي جاء به القرآن الكريم لا يمكن أن يكون معارف بشرية – وقت نزول القرآن، وأنه خارج عن القدرات العقلية لمن قال به وهو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ومنهم من توقف عند ذلك ولم يربط الإعجاز العلمي بالوحي الإلهي، لأن عقيدة الألوهية عندهم غير واردة، ولم ينتقلوا بهذا اليقين العقلي إلى الاستدلال على الوحي وصدق القرآن والإيمان بالإسلام، لأن هذه التداعيات الفكرية ليست سهلة وبسيطة بل هي متشابكة ومعقدة. والهداية أو الجحود والقبول أو الرفض، في العقيدة والإيمان بالله تخضع لأمور ترتبط بالوجدان الذي ينجذب نحو الغيبيات، والأمر أولاً وأخيراً مرده إلى توفيق الله… ولنتذكر قوله سبحانه وتعالى:{ وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً… } [سورة النمل].
ولا ينفي هذا أن هناك من العلماء من أيقن بأن هذه الإشارات العلمية فوق قدرات البشر وآمن بأن القرآن وحي من عند الله سبحانه وتعالى، وأشهروا إسلامهم، سواء في مؤتمرات الإعجاز العلمي للقرآن والسنة عبر السنوات الماضية، أم في غيرها…
الاعتراض الثامن: ويتمثل في قولهم إذا كان في القرآن الكريم كل هذه الإشارات العلمية، فلماذا لم يستفد منها المسلمون على مر العصور ؟
نرد على هذا الاعتراض في النقاط الآتية:
1- إذا كان المسلمون الأوائل قد آمنوا بالإعجاز المطلق للقرآن الكريم، فقد انصرفوا إلى الإعجاز اللغوي وانشغلوا بدراسته مما جعلهم لا يهتمون بالإعجاز الموضوعي بعامة، كما اكتفوا بفهم آيات القرآن الكونية فهماً لغوياً يكفيهم فهم المقصود منها كبراهين على قدرة الله سبحانه وتعالى.
2- الإشارات العلمية بآيات القرآن الكونية ليست من الوضوح بحيث يدرك مدلولاتها العلمية غير المتخصصين في العلوم الكونية الذين لم تتوفر لهم المعارف والحقائق والعلوم. ولم يكن من السهل على المسلمين الأوائل أن يتعرفوا عليها كإشارات علمية قابلة للبحث والاستقصاء العلمي.
3- المسار العلمي للتعرف على ما تحمله الإشارات العلمية للقرآن من معارف كونية لا يبدأ من النصوص القرآنية ثم يتجه إلى المعامل للبحث والتجريب، ولكنه يبدأ من الكشوف الكونية على أيدي العلماء – مسلمين وغير مسلمين – ثم يتجه إلى الآيات القرآنية لتطابقها وتوضحها وتشرحها، تمشياً مع سنن الله سبحانه وتعالى في إظهار آياته الكونية التي يشير إليه قوله سبحانه وتعالى: { سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق… } [سورة فصلت] فالبحث العلمي يبدأ من الكون المنظور، ثم يتجه إلى آيات الله المسطورة وهي القرآن الكريم ويشرح معانيها، فيما يعرف بالتفسير العلمي للقرآن الكريم. (…)
الاعتراض التاسع: وهو أن القول بالإعجاز العلمي ينقصه شرط التحدي وينقصه أن يكون من جنس ما برز فيه الموجه لهم التحدي.
أما عن القول الأول، أي مجيء تحديه بالمثلية { فأتوا بسورة من مثله…}[ سورة البقرة ] فإن الإعجاز العلمي يدخل في المثلية. كما أن المعجزة ليست قائمة على التحدي والمعاجزة فحسب، بل إنها تتحقق بمجرد تفردها عن المألوف بما يؤكد أنها من عند الله سبحانه وتعالى تأييداً لرسوله صلى الله عليه وسلم… والإعجاز العلمي حقق ذلك الغرض، خاصة في القرون التالية لعصر نزول القرآن، حيث أن القرآن جاء معجزة لكل الناس في كل الأزمان، والعرب وقت نزول القرآن كان تحديهم بالبلاغة والبيان، وهذا وجه من وجوه الإعجاز. وفي عصور التقدم في العلوم الكونية ظهر الإعجاز فيما يحمله القرآن من حقائق علمية غير مسبوقة، فالإعجاز العلمي إذًا لم يأت ليتحدى من نزل فيهم القرآن فحسب، ولكن جاء لتشهد القرون من بعدهم على أنه وحي من عند الله، وذلك من مقاصد المعجزة كما قلنا.
الاعتراض العاشر: يتمثل في قولهم المعارف الكونية الواردة بالقرآن هي من قبيل ذكر الظواهر الكونية التي يعرفها عامة الناس وليس في ذلك إعجاز علمي.
ونجيب بأن المعارف الواردة بالقرآن الكريم عن الظواهر الكونية تختلف تماماً عن تلك التي يعرفها عامة الناس بالفطرة، والتي هي من قبيل المعارف الظاهرية. ولكن القرآن عندما يتناول هذه الظاهرة المألوفة للناس جميعاً فإنه يتحدث عنها بدقة علمية مستخدماً كلمات تكمن فيها الإشارات العلمية التي تكون مجهولة حتى للمتخصصين قبل اكتشافها (…).
المؤيدون للإعجاز العلمي في القرآن الكريم
(…) ينطلق التأييد للإعجاز العلمي من قناعات لدى المؤيدين نذكرها باختصار فيما يلي:
1- الإيمان بالإعجاز المطلق للقرآن الكريم وبوجهيه: البياني والموضوعي وبالإعجاز العلمي المتفرع عنهما.
2- كل ما جاء بالقرآن الكريم حق وصدق والموجودات والظواهر والسنن الكونية تطابق الإشارات العلمية القرآنية وهي بتلك المطابقة تثبت وتأكّد مصداقية القرآن في حديثه عن الكون وكافة المخلوقات، كما تعطي للإعجاز استمرارية كلما تكشف أمر في الكون وكان مطابقاً للإشارة العلمية بالقرآن الكريم.
3- وبجانب الأدلة العقلية التي ذكرناها، توجد الأدلة النقلية من القرآن الكريم ممثلة في جملة من الآيات القرآنية نذكر بعضها في ما يلي: قوله سبحانه وتعالى: { ما فرّطنا في الكتاب من شيء…. } [سورة الأنعام]، وقوله سبحانه وتعالى: {ونزّلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء….} [سورة النحل]
مقتطفات من أقوال المؤيدين للإعجاز العلمي
تنوعت ثقافات وتخصصات المؤيدين للإعجاز العلمي كما تنوعت ثقافاتهم وتوجهاتهم الفكرية مما يثبت أن الإعجاز العلمي انتشر بين العقول كحقيقة علمية واستقر على ساحة الفكر كمنهج علمي يقبل عليه العلماء ويقبلونه. وسنكتفي بذكر عدد قليل من المؤيدين كما سنختصر أقوالهم:
1- يقول حجة الإسلام / أبو حامد محمد الغزالي: العلوم كلها داخلة في أفعال الله وصفاته، وفي القرآن شرح ذاته وأفعاله وصفاته، وهذه العلوم لا نهاية لها، بل كل ما أشكل فيه النظار في النظريات والمعقولات ففي القرآن إليه رموز ودلالات عليه، يختص أهل الفهم بدركها.(…)
2- يقول الدكتور / عبد العزيز إسماعيل: حقاً إن القرآن الكريم ليس بكتاب طب أو هندسة أو فلك أو أي علم من العلوم الطبيعية، ولكنه يضم آيات تحتوي على كثير من الحقائق التي لم يعلمها العلماء إلا حينما كشف العلم الحديث عن معناها بعد مرور ألف سنة على ظهور الإسلام. وهناك آيات لم تتقدم العلوم لتفسيرها إلى الآن وستنكشف كلما تقدمت العلوم.
3- ويقول الدكتور /عفيف عبد الفتاح طبارة: القرآن كتاب هداية وإرشاد… ومع ذلك لم تخل آياته من حقائق كثيرة في المسائل الطبيعية والطبية والجغرافية، عرف بعض أسرارها في العصر الحديث.
4- ويعلن الشيخ / محمد الغزالي بأن من أسرار إعجاز القرآن الكريم احتواءه على أسرار علمية، لم تهتد العقول إليها بعد عصر القرآن إلا بمعونة الآلات والأدوات الدقيقة.
5- يقول الأستاذ الدكتور / محمد أحمد الغمراوي:… والقرآن بذلك سبق العلم الحديث إلى حقائق كونية… ويتوقف على فقه الآيات الكونية تيسير الدعوة إلى دين الله في هذا العصر، عصر العلم الحديث…والواقع أن موضوع إعجاز القرآن لا يزال بكراً برغم كل ما كتب فيه.
6- يقول الشيخ / د. عبد المجيد الزنداني: الإعجاز العلمي في القرآن الكريم هو علم الله الذي يصف أسرار الخلق في شتى الآفاق، يقرر البداية ويصف أسرار الحاضر ويكشف غيب المستقبل الذي ستكون عليه سائر المخلوقات، وعندما دخل الإنسان في عصر الاكتشافات العلمية، وامتلك أدق الأجهزة للبحث العلمي، وأخذ يبحث عن الأسرار المحجوبة في آفاق الأرض والسماء، وفي مجالات النفس البشرية، فإذا ما تكاملت الصورة وتجلت الحقيقة ظهرت المفاجأة الكبرى بتجلي أنوار الوحي الإلهي الذي نزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم قبل عشرات القرون بذكر هذه الحقائق في آية من القرآن أو في حديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم بدقة علمية معجزة وعبارات مشرقة.
إن التفسير العلمي هو الكشف عن معاني الآية أو الحديث في ضوء ما ترجمت صحته من نظريات العلوم الكونية. أما الإعجاز العلمي فهو إخبار القرآن الكريم والسنة النبوية بحقيقة أثبتها العلم التجريبي أخيراً وثبت عدم إمكانية إدراكها بالوسائل البشرية في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم…. وهكذا يظهر اشتمال القرآن الكريم أو الحديث النبوي على الحقيقة الكونية التي يؤول إليها معنى الآية القرآنية أو الحديث، ويشاهد الناس مصداقها في الكون، فيستقر عندها التفسير ويعلم بها التأويل، كما قال سبحانه وتعالى: { لكل نبأ مستقر وسوف تعلمون… } [سورة الأنعام] وقد تتجلى مشاهد أخرى كونية عبر القرون تزيد المعنى المستقر وضوحاً وعمقاً وشمولاً، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أوتي جوامع الكلام، وكلمات القرآن تتعدد معانيها…(…)
7- يقول الدكتور / موريس بوكاي: تناولت القرآن منتبهاً بشكل خاص إلى الوصف الذي يعطيه إلى حشد كبير من الظواهر الطبيعية. لقد أذهلتني دقة بعض التفاصيل الخاصة بهذه الظواهر، والتي لم يكن ممكناً لأي إنسان في عصر محمد صلى الله عليه وسلم أن يكوّن عنها أدنى فكرة، وأذهلتني مطابقتها للمفاهيم التي نملكها اليوم عن هذه الظواهر. وقد قرأت إثر ذلك مؤلفات كثيرة خصصها كتاب مسلمون للجوانب العلمية في نص القرآن… إن أول ما يثير الدهشة في روح من يواجه مثل هذا النص لأول مرة هو ثراء الموضوعات المعالجة: فهناك الخلق، وعلم الفلك وعرض لبعض الموضوعات الخاصة بالأرض، وعالم الحيوان، وعالم النبات، والتناسل الإنساني… (…) وقد دفعني ذلك لأن أتساءل لو كان كاتب القرآن إنساناً، فكيف استطاع في القرن السابع الميلادي أن يكتب ما اتضح أنه يتفق اليوم مع المعارف العلمية الحديثة ….
8- يقول دكتور / روجيه غارودي: إنني تتبعت كل الآيات القرآنية التي لها ارتباط بالعلوم التطبيقية والطبية التي درستها منذ صغري وأعرفها جيداً، فوجدت هذه الآيات منطبقة كل الانطباق على معارفنا الحديثة. ولقد أسلمت لأنني تيقنت أن محمد صلى الله عليه وسلم أتى بالحق الصراح من قبل ألف سنة. ولو أن كل صاحب فن من الفنون أو علم من العلوم قارن كل الآيات القرآنية المرتبطة بما تعلم لأسلم بلا شك، إن كان عاقلاً خالياً من الأغراض.
الخلاصة:
استنادًا لما سبق عرضه من المؤيدين للإعجاز العلمي – وهم كما قلنا يختلفون في الثقافات ما بين تخصصات في العلوم الدينية وتخصصات في العلوم الكونية – نقدم التلخيص التالي:
1- القول بالإعجاز العلمي ممتد عبر التاريخ الإسلامي، وقام بالتفسير العلمي للقرآن الكريم بعض قدامى المفسرين، وهو مطلب معاصر يتفق عليه المتخصصون في العلوم الدينية والمتخصصون في العلوم الكونية، ويرون أن المكتشفات والمعارف العلمية الحديثة تعين على فهم وتفسير الآيات الكونية بالقرآن الكريم.
2- يتفق المؤيدون للإعجاز العلمي على أن القرآن الكريم كتاب هداية وليس بكتاب لتدريس العلوم الكونية، وما جاء به من إشارات علمية إنما هو من باب الاستيعاب للحقائق الكونية. وأن القرآن استخدم الحقائق الكونية في الدعوة إلى الإيمان والفضيلة وهذه الحقائق الكونية تقف شاهداً على صدق القرآن الكريم، ليظل حجة على الناس كلما انتشرت العلوم الطبيعية ويصبح ذلك من عناصر خلوده.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
* أمين عام جمعية الإعجاز العلمي في القرآن والسنة. أستاذ علم الحشرات ـ جامعة الأزهر. وللراغبين بمتابعة البحث بكامله مراجعة الموقع www.55a.net