محمد فرشوخ
لما قفل النبي صلى الله عليه وسلم عائداً من غزوة قال لأصحابه:”رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر ، جهاد النفس والهوى”. فجهاد المعركة متقطع وجهاد النفس والهوى دائم يُخشى فيه من الغفلة.
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك: ” يا معاذ ألا أدلك على أبواب الخير ؟الصوم جنة[1] والصدقة تطفيء الخطيئة وصلاة الرجل في جوف الليل” ثم قرأ النبي: [ تتجافى جنوبهم عن المضاجع..].
وقيل في الجهاد الأكبر اختصاراً: قلة الطعام، وقلة المنام، وقلة الكلام واعتزال العوام[2]. ويقول بعض السلف أن الجهاد الأكبر يقوم على أربعة أركان أساسية هي: الجوع والسهر والعزلة والصمت. وتختصر بالدعاء المأثور: اللهم أعنا على الصيام والقيام وغض البصر وحفظ اللسان.
1-الحث على الجوع: قال الله تعالى:[ ولنبلونّكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشِّر الصابرين].(سورة البقرة –155) فلا يجب أن يزع الانسان إذا ما جاع. وقال أيضاً:[ ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة]. (سورة الحشر-9). وقال كذلك: [ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيرا].(سورة الإنسان). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابنته فاطمة رضي الله عنها:
“السلام عليك يا بنتاه كيف أصبحت”. قالت: أصبحت والله وجعة، وزادني وجعا على ما بي أني لست أقدر على طعام آكله، فقد أجهدني الجوع، فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال “لا تجزعي يا بنتاه فوالله ما ذقت طعاما منذ ثلاثة، وأني لأكرم على الله منك ولو سألت ربي لأطعمني، ولكني آثرت الآخرة على الدنيا “..
والشبع هو باب الشهوات المتتالية: فكلما نفّذ المرء رغبة أو قضى لنفسه شهوة رغبت النفس إلى شهوة أشد وأعصى، فإذا شبع من الطعام طلب الحلوى والفاكهة، ثم الشراب، ثم اشتعلت شهوته، ثم صار لا يكتفي بالحلال ثم صار لا يحفل بأية معصية يرتكب أولاً. والعلاج هو في منازعة النفس طلبها من البداية وقبل الاستفحال.
-عن عائشة رضي الله عنها: “ما شبع آل محمد من خبز شعير يومين متتابعين حتى قبض”. وفي الحديث الشريف:”ما ملأ ابن آدم وعاءً شراً من بطنه”. وقوله الشريف: ” إن أكثر الناس شبعا في الدنيا أطولهم جوعا يوم القيامة “.
2-أهمية التدريب على الجوع:
قد يؤدي الشبع إلى تقوية عزم الشيطان وشهوة النفس، ويضعف عزم الانسان ومقاومته. والحديث: ” إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم فضيقوا مجاريه بالجوع “.
ففي الجوع والصيام تدريب على صعوبات الحياة من فقر أو حاجة وعلى تحمل المشقات وأين الصبر إذا استسلم الجيش فور قطع الإمداد عنه؟ قال صلى الله عليه وسلم:” ولأبعثنّ عليكم رجلا ليس بخيركم، أصبرَكم على الجوع والعطش “، فبعث سريّة إلى قبيلة جهينة، وأمّر عليها عبد الله بن جحش الأسدي رضي الله عنه”.
3-أدب الجوع:
الجوع هو دواء النفس الأمارة، وهو الذي يجعلها تستكين وتضعف فتذعن لأمر العقل والقلب والمنطق. ومقاومة الشهوة هي فعل إرادة، ففي الحديث:” إن من السرف أن تأكل كلما اشتهيت”.وكان الصحابة يتناصحون في ذلك:(رأى عمر جابراً رضي الله عنهما يحمل قطعة من اللحم فقال: “ما هذا ياجابر أوكلما اشتهيتم اشتريتم؟).
ومن أدب الجوع أن ينقص المرء من حصته كل يوم لقمة جديدة. قال سهل بن عبد الله :(جعل الله الشبع في المعصية والجهل ، وجعل في الجوع العلم والحكمة)، وقال: (أكل الصديقين مرة في اليوم وأكل المؤمنين مرتين ومن أكل ثلاثاً قل لأهله يبنون له معلفاً )،أي صار أشبه بالدواب، ويتميز المؤمن عن الغافل بأنه إذا جاع قوي وإذا أكل ضعف.
4-ثمرة الجوع في الدنيا والآخرة:
جاء في الحديث الشريف:” أهل الجوع في الدنيا هم الذين يقبض الله أرواحهم وهم الذين إذا غابوا لم يفتقدوا، وإذا شهدوا لم يعرفوا، أخفياء في الدنيا، معروفون في السماء، إذا رآهم الجاهل ظن بهم سقما، وما بهم من سقم إلا الخوف من الله تعالى، ليُظَلّون يوم القيامة يوم لا ظل إلا ظله”. (رواه الديلمي عن أبي هريرة.).
قال تعالى: [ كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية].
الجوع صفاء للروح وشفافية في رؤية الحقائق:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” إذا رأيتم أهل الجوع والتفكر فاقتربوا منهم فإنه تجري الحكمة معهم.” وقال: ” لا تُكرِهوا مرضَاكُمْ على الطَّعامِ، فإنَّ اللهَ تباركَ وتعالى يُطعمهُمْ ويَسقيهِمْ “. فحين يجوعون جسدياً يصبحون أقرب روحياً. وكان صلى الله عليه وسلم يواصل في الصيام ويقول:” إني لست كأحدكم إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني”.
ومن قوة الإرادة التمرس على مكافحة الجشع والشبع، وعلى العبد أن يذكّر نفسه عند بدء طعامه أن طعامه منّة من الله وكذلك قدرته على الهضم، والحديث: “من أكل طعاماً ثمَّ قال: الحمد للّه الذي أطعمني هذا الطعام ورزقنيه من غير حول منِّي ولا قوَّةٍ غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر”.
5-الجوع سنّة وتمرّس:
كان صلى الله عليه وسلم يشد صلبه بالحجر من الغرث (أي من الجوع). وعن أبي هريرة قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي جالسا فقلت: يا رسول الله أراك تصلي جالسا فما أصابك؟ قال: “الجوع يا أبا هريرة “، فبكيت فقال: ” لا تبك فإن شدة القيامة لا تصيب الجائع إذا احتسب”.(ابن النجار).
وكان عليه الصلاة والسلام ينصح أصحابه: ” قم عن الطعام ونفسك تشتهيه”. ويقول: ” نحن قوم لا نأكل حتى نجوع وإذا أكلنا لا نشبع “.
فالجوع وسيلة لإعداد الرجال وتقوية العزيمة ويساعد على تربية المرء حتى يكون رجلاً حقيقياً ، عن المدائني قال: قال الإمام علي بن أبي طالب: (لا يكون الرجل قيم أهله حتى لا يبالي أي ثوبيه لبس ولا ما سد به فورة الجوع)، أي حين يقاوم الدنيا والنفس معاً.
6-معالجة الجوع بأنواعه:
يعالج الجوع بعدة طرق أولها اجتناب أهل الشبع والنهم والولائم، للحديث: ” أعوذ بالله من قلب لا يخشع وعلم لا ينفع ودعاء لا يسمع ونفس لا تشبع، ومن الجوع فإنه بئس الضجيع” .أي إذا كان سبب الجوع فقراً لا قهراً لأنه يمنع النوم ويضعف القوى.عن ابن مسعود.
ويعالج الجوع أيضاً بمخالطة من هو أجوع وأفقر، فيبحث عن الجائعين ويؤثرهم في الطعام للحديث: “من موجبات المغفرة إطعام المسلم السغبان” (الشديد الجوع).
وكذلك بالتعوّد على الجوع وأن لا يخشى الفقر، فعن علي رضي الله عنه قال:( لقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وإني لأربط الحجر على بطني من الجوع وإن صدقتي اليوم لتبلغ أربعين ألفا ).
وباعتبار الجوع حالة عابرة فلا يشتد هلعه وخوفه منه وفي الحديث الشريف: ” إذا اشتد كلب الجوع فعليك برغيف وجرة من الماء القراح، وقل على الدنيا وأهلها مني الدمار”.(عن أبي هريرة).
بالانصراف عن التفكير بالجوع والانشغال بما يهم يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” طعام المؤمنين في زمن الدجال طعام الملائكة: التسبيح والتقديس، فمن كان منطقه يومئذ التسبيح والتقديس أذهب الله تعالى عنه الجوع.” (عن ابن عمر).
-الخلاصة:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:” يا أبا هريرة عليك بطريق قوم إذا فزع الناس لم يفزعوا، وإذا طلب الناس الأمان لم يخافوا، قوم من أمتي في آخر الزمان يحشرون يوم القيامة محشر الأنبياء إذا نظر الناس إليهم ظنوا أنهم أنبياء بما يرون من حالهم فأعرفهم فأقول أمتي فيقول الخلائق: إنهم ليسوا بأنبياء؛ فيمرون مثل البرق والريح، تغشى من نورهم أبصار أهل الجمع، فقلت: يا رسول الله فمرني بمثل عملهم، لعلي ألحق بهم، فقال: يا أبا هريرة ركبوا طريقاً صعب المدرجة، مدرجة الأنبياء، طلبوا الجوع بعد أن أشبعهم الله تعالى، وطلبوا العري بعد أن كساهم الله تعالى، وطلبوا العطش بعد أن أرواهم الله تعالى، تركوا ذلك رجاء ما عند الله، تركوا الحلال مخافة حسابه، وصاحبوا الدنيا فلم تُشغل قلوبهم، تعجب الملائكة من طواعيتهم لربهم، طوبى لهم، ليت الله عز وجل قد جمع بيني وبينهم، ثم بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم شوقاً إليهم، فقال: يا أبا هريرة إذا أراد الله بأهل الأرض عذاباً فنظر إلى ما بهم من الجوع والعطش كف ذلك العذاب عنهم، فعليك يا أبا هريرة بطريقهم، من خالف طريقهم بقي في شدة الحساب..”.
والعجب في بني آدم أننا نرى رجلاً صحيح الجسم قوي البنية يعجز عن الصيام ، يقابله فتى أو فتاة نحيلي الجسم رقيقي الحال يصومون الشهر كله، إنه فعل إرادة وإيمان واقتناع بأن الله أمر وبأنه المستعان. وفقنا الله جميعاً لنيل بركة الصيام والقيام وغض البصر وحفظ اللسان.
[1] درع يدرأ عنك النار والأذى.
[2] القصد هو السوقة من الناس.