هي أم الفواحش ومصدر الخبائث، منها مبتدأ الرذائل، وعندها، ولا يدرى ما يُرتكَب بعدها. قال الله تعالى عنها في كتابه الكريم إنها إثم كبير وإنها رجس من عمل الشيطان، وإنها وسيلة إبليس كي يوقع العداوة والبغضاء بين الناس، فحرّم شربها في القرآن العظيم ولعن المتعاطين بها على لسان نبيه الكريم، لما في ذلك من مصلحة لحفظ صحة ابن آدم وكرامته وعقله ودينه وماله وسمعته وأهله.
وفي ملف هذا العدد تبيان لمضارّ الخمر وأخطاره {لمن أراد أن يذّكر أو أراد شكورا}.
أصل التسمية: الخمر مأخوذة من خَمَرَ إذا ستر، ومنه خمار المرأة. وكل شيء غطّى شيئا فقد خمّره، ومنه “خمروا آنيتكم” فالخمر تخمر العقل، أي تغطيه وتستره.
والعقل حبيب الله وهديته الفضلى إلى خلقه ليعرفوه به، ولكي يتلمسوا به طرق التقرب إليه ، فمن أكرم هدية الله أجلّه الله، ومن احتقر عقله فقد أغضب الله، ولا يزدري العقل مثل السكر والغضب، وقد يعود الغضبان إلى رشده، لكن السكران يتأخر حتى يفيق من سكرته فتطول مدة غيبته وفقده لإرادته فتكثر آثامه ويعم أذاه.
الخمر أم الخبائث:
جاء في الحديث الشريف[1] : ” اجتنبوا أم الخبائث فإنه كان رجل فيمن كان قبلكم يتعبد ويعتزل الناس فعلقته امرأة غاوية فأرسلت إليه خادمها فقالت : إنا ندعوك لشهادة فدخل فطفقت كلما دخل بابا أغلقته دونه حتى أفضى إلى امرأة وضيئة وعندها غلام وباطية فيها خمر فقالت : إنا لم ندعك لشهادة ولكن دعوتك لتقتل هذا الغلام أو تقع علي أو تشرب كأسا من هذا الخمر فإن أبيت صحت وفضحتك فلما رأى أنه لا بد له من ذلك قال : اسقني كأسا من هذا الخمر فسقته كأسا من الخمرة قال : زيديني فلم يرم حتى وقع عليها وقتل النفس ، فاجتنبوا الخمر فإنه والله لا يجتمع الإيمان وإدمان الخمر في صدر رجل أبدا، ليوشكن أحدهما أن يخرج صاحبه “.
تحريم الخمر:
يقول الله تعالى في سورة المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، {90}.
جاء في “لسان العرب” أن الرجس هو النتن والقذر والنجس والإثم والقبح. وقد يعبر به عن الغضب والعقاب والعذاب واللعنة والكفر.
وفسر الفقهاء كلمة {فاجتنبوه} أي ابعدوه واجعلوه ناحية؛ فأمر الله تعالى باجتناب هذه الأمور، واقترنت بصيغة الأمر مع نصوص الأحاديث وإجماع الأمة، فحصل الاجتناب في جهة التحريم؛ لأن الآية أتت نهياً وزجرا، فبهذا حرمت الخمر. ولا خلاف بين علماء المسلمين أن سورة “المائدة” نزلت بتحريم الخمر. وروى ابن عباس قال: (لما نزل تحريم الخمر، مشى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضهم إلى بعض، وقالوا حرمت الخمر، وجعلت عدلا للشرك؛ يعني أنه قرنها بالذبح للأنصاب وذلك شرك. ثم علق “لعلكم تفلحون” فعلق الفلاح بالأمر، وذلك يدل على تأكيد الوجوب.
وواجب المسلمين الامتثال لقوله تعالى في سورة النساء : { ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم}،{66}.
سبب تحريم الخمر: قوله تعالى في سورة المائدة: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ}، {91}.
فعن مجاهد ، قال : قال إبليس : (ما أعجزني فيه بنو آدم فلن يعجزوني في ثلاث إذا سكر أحدهم أخذنا بخزامته [حلقة توضع في أنف البعير]، فقدناه حيث شئنا وعمل لنا بما أحببنا ، وإذا غضب قال بما لا يعلم وعمل بما يندم ، ونبخله بما في يديه ونمنيه ما لا يقدر عليه) [2].
وكان السلف الصالح يعظون في النهي عن شرب الخمر فيقولون: (أترى الخمر إنما حرمت لخبث طعمها أو لنتن ريحها؟ إنما حرمت للسكر منها).
كما كانوا يتشددون في نجاسة الخمر: ( لو أن قطرة من مسكر وقعت في قربة من ماء لحرم ذلك الماء على أهله ).
وإذا كان الله تعالى قد حرّم الخمر لخطورتها فإن النبي صلى الله عليه وسلم لعن الخمر ولعن معها عشرة: بائعها ومبتاعها والمشتراة له وعاصرها والمعصورة له وساقيها وشاربها وحاملها والمحمولة له وآكل ثمنها[3].
ويحل لعن كل من جاهر بالمعاصي كشراب الخمر وأكلة الربا، ومن تشبه من النساء بالرجال ومن الرجال بالنساء.
وعَنْ يَحْيَى أَبِي عُمَرَ النَّخَعِيِّ قَالَ سَأَلَ قَوْمٌ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ بَيْعِ الْخَمْرِ وَشِرَائِهَا وَالتِّجَارَةِ فِيهَا فَقَالَ:
(أَمُسْلِمُونَ أَنْتُمْ قَالُوا نَعَمْ قَالَ فَإِنَّهُ لَا يَصْلُحُ بَيْعُهَا وَلَا شِرَاؤُهَا وَلَا التِّجَارَةُ فِيهَا) [4].
الخمر من الكبائر:
وصنفها العلماء من الكبائر لقوله تعالى: يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير. فقد روى الإمام أحمد عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : “من شرب شرابا يذهب بعقله فقد أتى بابا من أبواب الكبائر “.
-ويعتبر شارب الخمر فاسقاً مثل الزاني، ومن صلى وراء من شرب الخمر فإنه يعيد صلاته أبدا.
تحريم التداوي بالخمر:
منع الفقهاء التداوي بكل محرّم، لقوله عليه السلام: “إن اللّه لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليهم”، ولقوله عليه السلام لطارق بن سويد وقد سأله عن الخمر فنهاه أو كره أن يصنعها فقال، إنما أصنعها للدواء، فقال: “إنه ليس بدواء ولكنه داء”. رواه مسلم في الصحيح.
وروى الإمام أحمد عن أم سلمة ، أنها انتبذت فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم والنبيذ يهدر قال :” ما هذا ؟” قلت : فلانة اشتكت فوصف لها ، قالت : فدفعه برجله فكسره وقال : ” إن الله لم يجعل في حرام شفاء “.
ولا يصح التداوي ولو بالقليل منه، والحديث:”ما أسكر كثيره فقليله حرام”[5]. مما يقطع الطريق على من يشرب البيرة، والمشروبات الروحية الصغيرة في الأعياد، والقليل من الخمر لتنشيط القلب وغيره.
الخمر ومشتقاتها-تعددت الأسماء والإثم واحد:
والنَّبِيذ هو ما كان يُعْمَلُ من الأشْرِبة من التَّمرِ، والزَّبيب، والعَسَل، والحِنْطَة، والشَّعير وزيدت بانواع من الفاكة وغيرها. ويتحايل بعض صناع الكحول وتجارها فيقدمون الخمور بأسماء شتى بعضها عربي وكثيرها أجنبي، وهذا الأمر ليس جديداً على الناس فنبيذ العنب بالفارسية كان يدعى “الباذق”، ونبيذ العسل في اليمن كان يدعى “البتع”، والخميرة التي تعجل في تخمّر النبيذ كانت تدعى “الدردري”، وفي الحديث: عن عبادة بن الصامت ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” ليستحلن آخر أمتي الخمر باسم يسمونها إياه “[6].
وروى الإمام أحمد عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ” كل مسكر خمر وكل مسكر حرام” وعن معاوية الحديث:” ألا إن كل مسكر حرام على كل مسلم”.
أثر شرب الخمر على الإيمان والإسلام:
حين يشرب المؤمن الخمر يفقد المسلم إيمانه ولا يبقى منه إلا الإسلام مجردا من كل ضمانة، جاء في صحيح البخاري، ج 21 / ص 22، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَنْتَهِبُ نُهْبَةً يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ…”.
وعن أبي موسى الأشعري، أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بنبيذ ينش (يغلي) قال: “اضرب بهذا الحائط ؛ فإنه لا يشربه من كان يؤمن بالله واليوم الآخر “[7].
وكان الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه يقول: “…فاجتنبوا الخمر فإنه والله لا يجتمع الإيمان وإدمان الخمر في صدر رجل أبدا ليوشكن أحدهما أن يخرج صاحبه “.
وليحذر شاربها من موت الفجاءة فيموت على معصية ويذهب خير ما قدم في حياته هدرا، وقد جاء في الحديث الشريف: “مَا مِنْ أَحَدٍ يَشْرَبُهَا فَتُقْبَلُ لَهُ صَلاةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، وَلا يَمُوتُ وَفِي مَثَانَتِهِ مِنْهَا شَيْءٌ إِلا حُرِّمَتْ عَلَيْهِ الْجَنَّةُ، وَإِنْ مَاتَ فِي الأَرْبَعِينَ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً”[8].
عقوبته في الدارين:
يقام الحد على شارب الخمر تحت حكم الإسلام، وأقلّه اربعين جلدة، وينفذ بالجريد والنعال، للمهانة والتحقير، فقد جاء في صحيح البخاري، ج 21 / ص 29، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: “جَلَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْخَمْرِ بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ وَجَلَدَ أَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ”.
وأخرج مسلم في صحيحه ج 9 / ص 82، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَجَلَدَهُ بِجَرِيدَتَيْنِ نَحْوَ أَرْبَعِينَ قَالَ وَفَعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ اسْتَشَارَ النَّاسَ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ أَخَفَّ الْحُدُودِ ثَمَانِينَ فَأَمَرَ بِهِ عُمَرُ.
هذا عدا عن اعتزال صالح المؤمنين لشاربي الخمر، فكان عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: ” لَا تُسَلِّمُوا عَلَى شَرَبَةِ الْخَمْرِ” [9].
وفي الحديث عن عقوبة مدمن الخمر في الآخرة، : ” ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة : عاق والديه ومدمن الخمر ومنان بما أعطى”.[10]
وعن أسماء بنت يزيد ، أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : “من شرب الخمر لم يرض الله عنه أربعين يوما، فإن مات مات كافرا، وإن تاب تاب الله عليه، وإن عاد كان حتما على الله أن يسقيه من طينة الخبال”. قالت: فقلت: يا رسول الله، وما طينة الخبال؟ قال: “صديد (عصارة) أهل النار “.
الإدمان ومعالجته: ليس المدمن في عرف الصالحين من يديم شرب الخمر فقط، ولكن المدمن هو الذي إذا وجدها شربها، ولو انقطع عنها فترة من الزمن، فكيف بمن لا يفارقها؟ سئل عبد الله ابن المبارك عن المدمن فقال 🙁 الذي يشربها اليوم ثم لا يشربها إلى ثلاثين سنة، ومن رأيه أنه إذا وجده أن يشربه) [11].
وقد نزل تحريمها في سنة ثلاث بعد غزوة أحد، التي جرت في شوال سنة ثلاث من الهجرة. ومن كرامة الله وإحسانه أنه لم يوجب على الصحابة الأوائل الشرائع دفعة واحدة، ولكن أوجب عليهم الأمر تلو الأمر، وكذلك تحريم الخمر، فكان أول ما نزل في أمر الخمر قوله تعالى في سورة البقرة: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا …[البقرة-219]، ثم بعده: “لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى” [النساء: 43] ثم قوله: “إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون” [المائدة: 91] ثم قوله: “إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه” [المائدة: 90] . وفي ذلك دليل على طريقة التخلص من الإدمان بالتدرج تخفيفا.
تنبيه: وينبغي قبل الختام أن نلفت انتباه القاريء بالعربية أنه حين يقرأ أن النبي صلى الله عليه وسلم أو صحابته الكرام قد شربوا نبيذاَ فإنما المقصود الزبيب المنقوع بالماء لأقل من نصف يوم أي قبل أن يختمر. وهذا ما لا يزال يفعله المسلمون الصائمون في رمضان وغيره إلى يومنا هذا.
فعن عكرمة ، أن رجلا ، سأل ابن عباس عن نبيذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : كان يشرب بالنهار ما صنع بالليل ويشرب بالليل ما صنع بالنهار.
وعن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، قال : كان النبيذ الذي يشربه عمر كان ينقع له الزبيب غدوة (صباحاً) فيشربه عشية، وينقع له عشية فيشربه غدوة ولا يجعل فيه دردي (الخميرة).
وفي البحوث التالية ما يدل بالعلم على الإعجازين القرآني والنبوي في تحريم الخمر ومضاره، نفعنا الله جميعاً بما فيها من مواعظ وعبر.
[1] أخرجه الإمام أحمد عن الزهري عن عبد الرحمن بن الحارث، عن عثمان.
[2] إبن أبي الدنيا، كتاب ذم المسكر – (ج 1 / ص 59).
[3] أخرجه أبو داود وابن ماجه في سننهما وأحمد في مسنده.
[4] صحيح مسلم – (ج 10 / ص 270).
[5] عن ابن عمر وعن جابر بن عبد الله ، أخرجه الإمام أحمد.
[6] عن عبادة بن الصامت ، أخرجه أحمد.
[7] رواه الإمام أحمد عن الإمام الأوزاعي.
[8] تَفَرَّدَ بِهِ الدَّرَاوَرْدِيُّ عَبْدِ اللَّهِ بن عَمْرِو بن الْعَاصِ ، أخرجه الطبراني في المعجم الكبير.
[9] صحيح البخاري ، (ج 19 / ص 281).
[10] المستدرك على الصحيحين للحاكم، ج 17 / ص 74، عن سالم عن أبيه؛ والنسائي عن ابن عمر.
[11] إبن أبي الدنيا، كتاب ذم المسكر – (ج 1 / ص 28).