د.”معزالإسلام” عزت فارس*
مقدمة
خلق الله سبحانه وتعالى أنواعاً من الأنعام، وجعل الإبل منها محطاً لأنظار المتأملين وموطناً لاعتبار المعتبرين، فقال: ﴿أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإبل كَيْفَ خُلِقَتْ﴾ (الغاشية: ١٧). ولعل لفظة “الإبل” توحي بأن كل ما في هذا المخلوق العجيب وكل ما يتعلق به هو موضع إعجاز وإبداع، بما في ذلك أعضاءها وأطرافها وحركاتها وصفاتها الجسمية وسلوكياتها الحيوية، ولبنها بل وحتى بولها وروثها. ومازال البحث العلمي يتواصل في الكشف عن مكنونات هذا المخلوق وأسرار خلقه، فكان مما تعمق به الباحثون هو معرفة أسرار لبن الإبل. وتجدر الإشارة ابتداءً إلى أن كلمة ” لبن ” في اللغة يقصد بها الحليب، وهو ما يؤخذ بالحلابة من إفراز الغدد الثديية من إناث الثدييات، ومصداق ذلك قول الحق تبارك وتعالى: ﴿وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ﴾ (النحل: 66)، فلا بد عند الحديث عن اللبن المخمر أو الرائب Yogurt من إضافة كلمة “رائب” أو “مخمر” لتمييزه عن اللبن الطبيعي غير المخمر، أي الحليب. وقبل أن نشرع في الحديث عن لبن الإبل لا بد من التعرف على هذا المخلوق العجيب، الذي عرف منذ القدم بلقب “سفينة الصحراء”.
نبذة تاريخية
تنتمي الإبل، وهي الجمال الكثيرة وتشمل الجمال والنوق، إلى الفصيلة الإبلية Camelidae، وهي نوعان من جنس واحد، أحدها الجمل العربي ذو السنام الواحد Camelus dromedaries الذي ينتشر في المناطق الحارة كالبلدان العربية في آسيا وإفريقيا، والراجح أنه قد استؤنس في وسط شبه الجزيرة العربية وجنوبيِّها منذ أقل من خمسة آلاف سنة، ويتبعه معظم إبل العالم، ومنه سلالات كثيرة مختلفة الألوان والمزايا. أما الآخر فذو السنامين Camelus bactrianus ، وهو قاتم اللون طويل الوبر وينتشر في البلدان الباردة مثل بلاد المغول أي منغوليا وجنوب الصين وكازاخستان. ويقدر عدد رؤوس الجمال في العالم، تبعاً لتقديرات منظمة الأغذية والزراعة الدولية للعام 2008، بقرابة 20 مليون رأساً، يتواجد معظمها في الصومال من القرن الإفريقي.
تعد الإبل عبر التاريخ مصدراً مهماً لغذاء الإنسان، ووسيلة رئيسة للتنقل، وكذا لإنتاج الوبر الذي يدخل في صناعة أنسجة الخيام وبعض الألبسة، فضلاً عن استخدامها في اللعب كسباق الهجن وغيرها. وتقوم النوق، أي أنثى الإبل، بدور مهم في تزويد الإنسان باللبن، حيث ينتشر استخدام لبنها خاصة في جزيرة العرب والسودان، كما ينتشر استخدام لبن الإبل المخمر في العديد من بلدان العالم كالهند وروسيا والسودان.
وقد عرف استخدام لبن الإبل في علاج عديد من الأمراض عبر التاريخ، ومايزال يستخدم في الطب الشعبي كعلاج للخرَب واليرقان والسل الرئوي والأزمة الصدرية واللشمانيا أو الداء الأسود. ومؤخراً، ازداد البحث العلمي حول استخدام لبن الإبل في علاج الأمراض والوقاية منها، حيث أظهرت دراسات علمية تميز هذا اللبن بخصائص علاجية واستطبابية سنأتي على ذكرها تفصيلاً.
ولا تقتصر جوانب التميز في الإبل على اللبن فحسب، بل تتعداها إلى بوله، والذي بات يستعمل في علاج حالات مرضية مثل الالتهاب الكبدي والاستسقاء، وكان من قبل يستعمل في علاج عدد من الأمراض. وفي هذا السياق نستذكر الحديث النبوي الشريف الذي يظهر أهمية ألبان الإبل و أبوالها في الاستشفاء من الأدواء، حيث جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- أمر الأعراب الذين جاؤا إلى المدينة وقد هزلت أجسامهم واصفرت جلودهم وانتفخت بطونهم بأن يلحقوا بإبل المسلمين التي ترعى خارج المدينة وأن يأخذوا من ألبانها وأبوالها، ففعلوا حتى شفوا مما أصابهم وصحّت اجسامهم.
إنتاج واستهلاك اللبن
نظراً لتمركز الإبل في المناطق الصحراوية والجافة في البلدان العربية المختلفة، فإن تقدير كمية إنتاج لبن الإبل أمر متعذَّر. ومع هذا فإن تقديرات منظمة الأغذية والزراعة الدولية للعام 2003 حول كمية إنتاج ألبان الإبل بنوعيها في العالم تقدر بحوالي 5.3 مليون طن في العام، يستهلك منها فقط 1.3 مليون طن بينما يذهب الباقي لاستهلاك صغار الحيوانات في الرضاعة. وتعد الصومال أكبرَ منتجٍ للبن الإبل في العالم ، تليها المملكة العربية السعودية.
وتمتاز الإبل بقدرتها الفائقة على إنتاج اللبن على الرغم من الظروف القاسية التي تعيشها، وكذلك بغزارة الإنتاج وطول مدة العطاء إذا ما قورنت مع بقية الحيوانات اللبونة، ومع احتياجاتها الغذائية المتوسطة والأقل من غيرها من الحيوانات الشبيهة. وتقدر كمية إنتاج اللبن خلال مدة الإنتاج التي تقدر بحوالي 8-18 شهراً بقرابة 1000-2000 كغم، ويقدر المتوسط اليومي لإنتاج اللبن لها بحوالي 3-10 كغم خلال تلك المدة، وقد تزداد هذه الكمية إلى 20 كغم/يوم في حال تحسن ظروف الإنتاج مثل توافر الماء والعلف والرعاية الصحية، حتى إنه قد سجلت كمية مقدارها 35 كغم في بعض الحالات الاستثنائية.
ويتم استهلاك معظم لبن الإبل من قبل مربي الإبل وعائلاتهم وحيواناتهم، في حين يتم تصدير القليل منه إلى الأسواق القريبة، نظراً لبعد المسافة بين أماكن الرعي والإنتاج، والأسواق في المدن الرئيسة. ومع هذا فقد تم إنتاج أنواع من لبن الإبل وتسويقها على المستوى التجاري، كما هو الحال في الإمارات العربية المتحدة حيث بات ينتَج لبن الإبل ويسوَّق في إمارة دبي تحت مسمى تجاري معروف هو ®Camelicious. ونتيجة لتزايد الطلب على استهلاك منتجات ألبان الإبل في أسواق الخليج العربي، فقد تم تطوير عدد من المنتجات الغذائية مثل لبن الشوكولاته والجبن والبوظة المثلجة المصنوعة من لبن الإبل، وكذلك اللبن الرائب والزبد، وهي منتجات ذات صفات حسية متقبلة وقيمة غذائية عالية ومرشحة لأن تكون منافساً لغيرها من منتجات الألبان التقليدية. وقد تم خلال العام المنصرم افتتاح مطعم للوجبات السريعة (اللحم المتبل أو البرجر وشطائر اللحم) المصنعة من لحوم الإبل في مدينة الرياض.
خصائص لبن الإبل
عند الحديث عن لبن الإبل، فإن الحديث يقتصر على اللبن المأخوذ من النوع الشائع في المنطقة العربية أو ما عرف سابقاً بذي السنام الواحد، حيث يختلف في خصائصه ومكوناته عن الإبل ذي السنامين بسبب الاختلاف في طبيعة البيئة التي يعيش كل منهما فيها، وبحسب نوع الغذاء المتوفر. ومن الخصائص العامة التي يمتاز بها لبن الإبل أنه ذو لون أبيض داكن غير ناصع، وذو مذاق متقبل، وهو مذاق يجمع بين الطعم الحلو والحاد، ويأخذ صفة الملوحة أحياناً كثيرة تبعاً لنوع العلف الذي يتناوله وكمية مياه الشرب. كما يمتاز لبن الإبل أنه أقل لزوجة من لبن البقر، وتبلغ درجة حموضته 6.5-6.7 ، وقد تنخفض إلى 6.0 في بعض الحالات، وهي درجة حموضة أقل من تلك التي للبن البقر ومشابهة تقريباً للبن الغنم.
ومن أغرب ما يمتاز به لبن الإبل عن غيره قدرته على البقاء في ظروف الجو العادية وبدون معاملة حرارية لمدة زمنية ممتدة دون حدوث تغيرات سلبية على قوامه وطعمه ورائحته. إذ في غضون ثلاث ساعات تزداد حموضة لبن البقر عند تركه على درجة حرارة الغرفة، بينما يتاخر لبن الإبل حتى ثمان ساعات كي يصل إلى نفس مستوى الحموضة، وفي حين يحتاج لبن البقر إلى 48 ساعة ليصبح طعمه شديد الحموضة لاذعاً ولكي يتجبن البروتين فيه؛ فإن لبن الإبل يحتاج إلى سبعة أيام في نفس الظروف. ولعل من أبرز ما يكسب لبن الإبل تلك الخصائص المقاومة للفساد احتواؤه على مركبات مانعة لنمو الجراثيم مثل إنزيم اللايسوزيم المحلل للميكروبات وبروتينات اللاكتوفيرين والبروتينات المناعية بكميات أكثر مما تحتويها الألبان الأخرى.
تركيب لبن الإبل
يعد لبن الإبل غذاءً كاملاً لصغار الإبل الرضيعة، ويعد غذاءً ذا قيمة غذائية وصحية عالية للإنسان، وإن لم يكن غذاء كاملاً. وقد اهتم العلماء والباحثون في دراسة مكوِّنات لبن الإبل وتركيبه، وأظهرت نتائج الدراسات تبايناً واختلافاً واضحاً في قيم التحليل، وذلك لاختلاف ظروف الإنتاج كالعوامل البيئية والجغرافية والموسمية، كالصيف والشتاء، ووفرة الماء ونوع العلف المقدم للإبل في كل دراسة، وكذا تبعاً لطرق التحليل وطرائق أخذ العينات. وبالنظر إلى مجمل الدراسات المنشورة ، حسبما أوردتها دراسة المراجعة العلمية للعالِمين “الحاج” و”الكنهل”، والمنشورة في الدورية العالمية لبحوث الألبان للعام 2010، فإن متوسط قيم التحليل الغذائي للبن الإبل كان على النحو التالي:
1-البروتين (3.1%): يتفاوت محتوى لبن الإبل من البروتين تبعاً للاختلاف في نوع السلالة التي ينتمي اليها، وتبعاً للموسم الذي يتم فيه الرعي، حيث أظهرت الدراسات احتواء سلالة جمال “المجاهيم” كميات من البروتين أكبر من تلك في غيرها من السلالات، وأظهرت الدراسات أن كمية البروتين تقل في فصل الصيف في حين ترتفع في فصل الربيع. ولعل من أبرز ما يميز بروتين لبن الإبل احتواؤه على كميات كبيرة من نوع البروتين المعروف بالكازيين Casein، والذي يمثل أكثر من نصف أنواع البروتين الموجودة في اللبن (50-80% من كمية البروتين)، في حين يمثل النوع الآخر المعروف ببروتين الشِّرش Whey الجزء الأقل المتبقي منه. ومن خصائص بروتين الكازين التي تكسب لبن الإبل ميزة إضافية أنه النوع الأسهل هضماً والأقل تسبباً بالتحسس لأمعاء الطفل الرضيع، إذا ما قورن بغيره من أنواع البرويتن كتلك لموجودة في لبن البقر، وهو ما يجعل لبن الإبل أقرب وأكثر شبهاً بلبن الإنسان من لبن البقر، وأكثر أماناً ضد التحسس. وبالنظر إلى نوعية الأحماض الأمينية المكونة لبروتين لبن الإبل، فقد أظهرت الدراسات تشابهًا بين أنواع الأحماض الأمينية في كل من لبن الإبل والبقر، مع اختلاف بسيط يتمثل في انخفاض محتوى الأول من الأحماض الأمينية الجلايسين والسيستيين بالمقارنة مع الثاني. أما عن المكون الآخر من البروتين، أي بروتين الشرش، فإنه يتواجد بكميات أقل مما هو عليه الحال في بروتين لبن البقر.
2-الدهون(3.5%): يتراوح محتوى الدهون في لبن الإبل ما بين 1.2-6.4%، وبمتوسط مقداره 3.5%. ويقترن الاختلاف في محتوى الدهون بلبن الإبل بمحتوى البروتين فيه، كما يقل محتوى الدهون بشكل كبير في حالات الجفاف وعطش الإبل، ويصل الانخفاض إلى 74% عن المحتوى الأصلي. ويعزى اللون الأبيض الأقل اصفراراً للبن الإبل بالمقارنة مع لبن البقر، الأكثر اصفراراً، إلى تدني كمية مركبات الكاروتين في الأول مقارنة بالثاني. و يمتاز لبن الإبل باحتوائه على كميات أكبر من الأحماض الدهنية طويلة السلسلة مقارنة بدهون لبن البقر، فضلاً عن احتوائه على كميات أكبر من الأحماض الدهنية غير المشبعة، بنسبة تصل إلى 43%، وكميات أقل من الأحماض المشبعة بالمقارنة مع لبن البقر؛ ما يجعل من لبن الإبل خياراً مناسباً لمرضى القلب وارتفاع دهون وكوليسترول الدم. وفي المقابل، فإن لبن الإبل يحوي كميات متفاوتة من الكولسترول ترتفع أو تنخفض أحياناً بالمقارنة مع لبن البقر، تبعاً لعوامل الرعاية المختلفة.
صور لحليب الابل المليء بالرغوة
3-سكر اللبن (اللاكتوز) (4.4%): يعد محتوى سكر اللبن الأقل تأثراً بظروف الرعي والمناخ السائد وطبيعة العلف والأكثر ثباتاً بخلاف غيره من العناصر الغذائية.وبالنظر إلى جداول التركيب الغذائي، نجد أن محتوى سكر اللاكتوز في لبن الإبل (4.4%) أقل من مثيله في لبن البقر (5.26%)، الأمر الذي يجعل من لبن الإبل أكثر أماناً وفائدة للمرضى الذين يعانون من حالة عدم تحمل سكر اللاكتوز، وهي حالة مرضية تنتشر في عدد من بلدان العالم وخاصة دول شرق آسيا، وينتج عنها حصول اضطرابات معوية بعد تناول اللبن. ويحصل هذا المرض نتيجة لغياب إنزيم اللاكتيز المحلل لسكر اللبن في الأمعاء بسبب اختلالات جينية لدى المرضى المصابين به.
4-الأملاح (0.79%): مثل غيرها من مكونات اللبن، تختلف كمية الأملاح المعدنية باختلاف السلالة والظروف البيئية. ويعد لبن الإبل مصدراً مميزاً لعنصر الكلوريد، وذلك نتيجة لارتفاع محتوى هذا المعدن في النباتات التي يعتمد عليها الجمل في غذائه. وبالمجمل، فإن محتوى لبن الإبل يعد مرتفعاً من الأملاح النزرة كالزنك والحديد والنحاس والمنغنيز والكبرى كالصوديوم والبوتاسيوم والكلوريد، في حين يتشابه محتوى لبن الإبل مع لبن البقر في كل من الكالسيوم والفوسفور والمغنيسيوم. وبالنظر إلى سلوك الجمال، وجد الباحثون أنها تميل نحو تناول النباتات الرعوية المحبة للملوحة، وذلك كوسيلة طبيعية لتعويض الفاقد من الأملاح من جسمها نتيجة للتعرق والتعرض للحر لمدد زمنية طويلة، الأمر الذي يجعل من طعم اللبن حلواً ومائلاً للملوحة قليلاً.
5-الفيتامينات: يحوي لبن الإبل كغيره من أنواع اللبن كميات متفاوتة من فيتامينات (ج) و (هــ) و (د) و (أ) وبعض فيتامينات (ب) المركب، ولكنه في المقابل يمتاز عن غيره من أنواع اللبن باحتوائه كميات زائدة من فيتامين ج، وهي كمية تزيد عن تلك الموجودة في لبن البقر بـ3-5 أضعاف. وهذا الفيتامين معروف بدوره في منع التأكسد والمساهمة في بناء الأنسجة الضامة وتقوية المناعة ضد الأمراض. وعليه فإن لبن الإبل يمكن أن يسهم بشكل كبير في تزويد سكان الصحراء بحاجتهم من هذا الفيتامين الذي اعتاد أهل الريف والحضر على الحصول عليه من الخضروات والفواكه، وأن تواجد فيتامين ج بهذه الكمية الكبيرة نسبياً يسهم كذلك في إطالة أمد صلاحية اللبن ورفع مقاومته للفساد الحسي الناتج عن التأكسد الهوائي لدهونه. وبالإضافة إلى هذا الفيتامين، يحوي لبن الإبل كمية أكبر من فيتامينات حمض البانتوثينيك وحمض الفوليك وكوبالامين (ب12) ونياسين (ب 3) مقارنة بمثيله من لبن البقر. وفي المقابل، فإن لبن الإبل تقل فيه كميات فيتامينات أ و ريبوفلافين (ب2). وتبعاً للتوصيات الغذائية الأمريكية، فإن كوباً واحداً من لبن الإبل يلبي 15.5% من حاجة جسم البالغ من فيتامين الكوبالامين (ب12)، و8.25% من حاجته من الريبوفلافين (ب2)، و5.25% من فيتامين أ، و10.5% من كل من فيتامينات ج وثيامين (ب1) وبيرودوكسين (ب6).
منتجات لبن الإبل
إن التطور التقني والاهتمام العلمي بلبن الإبل قد أسهم في تطوير عديد من المنتجات الغذائية منه، وأصبحت هذه المنتجات موضع اهتمام المستهلكين؛ نظراً لما يكشفه العلم الحديث من حقائق حول فوائده، ومن بعدها فوائد منتجاته، ولارتقاء مستوى الوعي الصحي والغذائي لدى المستهلكين. وعلى الرغم من ذلك، فإن منتجات لبن الإبل تبقى أكثر محدودية وأقل انتشاراً، وذلك لسبب بسيط هو قلة كميات الإنتاج بالمقارنة مع غيره من أنواع اللبن، كالبقر والغنم. بالإضافة إلى جملة من العوامل الأصيلة فيه والتي تعيق عملية تطوير المنتجات الغذائية كالجبنة وغيرها، ومنها:
أ) طول مدة التجبن للبروتين: وهذا الأمر يجعل من المدة اللازمة لتجبن بروتين اللبن 3-5 أضعاف المدة اللازمة لتجبن لبن البقر. ويعزى هذا الامر أساساً إلى الاختلاف المذكور في محتوى وطبيعة بروتينات لبن الإبل المذكورة تحت بند البروتين المتمثلة في بروتين الكازيين المسؤول عن التجبن.
ب) ضعف الخثرة: ويعزى ذلك إلى التدني النسبي لمجموع المواد الصلبة في لبن الإبل (11.9%) مقارنة مع مثيلاتها في لبن البقر والغنم، وخاصة بالنسبة لبروتين الكازيين. كما تعزى هذه الخاصية كذلك إلى صغر حجم حبيبات الدهن في لبن الإبل مقارنة مع لبن البقر.
ت) ضعف تأثير المنفحة (إنزيم التجبن Rennet) المسببة للتجبن: حيث أظهرت الدراسات أن الخثرة الناتجة عن تجبن لبن الإبل تعد ضعيفة وغير متماسكة، الأمر الذي ينعكس سلباً على الخصائص الحسية للمنتجات المشتقة منها.
ث) تدني كمية إنتاج الجبن: تقل كمية الجبن الطري الناتج عن تجبين لبن الإبل عن مثيلتها في لبن البقر بحوالي النصف، ففي حين ينتج كيلو غرام اللبن البقري حوالي ربع كيلو غرام من الجبن؛ فإن لبن الإبل ينتج نصف هذه الكمية (حوالي 120 غم) ، الأمر الذي يجعل من لبن الإبل مصدراً غير مجدٍ للجبن من الناحية الاقتصادية.
الخصائص الوظيفية للبن الإبل
برز في العقدين المنصرمين مفهوم “الأغذية الوظيفية” Functional Foods نتيجة لتطور الفهم العلمي لدور بعض الأغذية ليس فقط كمصدر للعناصر الغذائية، بل كمصدر لمركبات حيوية نشطة تسهم في الحد من الإصابة بالأمراض أو الوقاية منها والتخفيف من حدتها، بالإضافة إلى العناصر الغذائية الأساسية. ونتيجة للتطور الحاصل في البحث العلمي حول لبن الإبل، فقد تطورت النظرة إلى القيمة الغذائية والصحية لهذا المنتج من كونه مصدراً للبروتينات والأحماض الأمينية فقط، إلى مصدر متميز للعديد من المركبات النشطة ذات الخصائص الوظيفية والصحية المتعددة، ما يجعل من لبن الإبل مرشحاً للانضمام إلى قائمة الأغذية الوظيفية.
وخلال العقود المنصرمة، أظهر عديد من الدراسات العلمية أن للبن الإبل كثير من الفوائد الصحية، فضلاً عن الغذائية، نتيجة لوجود تلك المركبات الحيوية النشطة طبيعياً في لبن الإبل. وتؤكد أوجه الاستعمال الكثيرة التي تعارف الناس عليها منذ مدد طويلة من الزمن وفي عدد من المجتمعات البشرية، أن للبن الإبل الطازج أو المخمر فوائد صحية، وقد استخدم في علاج العديد من الامراض مثل الخرب واليرقان والسل الرئوي والأزمة الصدرية واللشمانيا أو الداء الأسود. ولذا فقد قام العلماء بسبر أغوار تلك المركبات لتحديد ماهيتها وكمياتها وطرائق تأثيرها على صحة الجسم، فكان منها:
1. التأثير المخفض لارتفاع ضغط الدم: ويعزى إلى قدرة بروتينات لبن الإبل على منع وتثبيط إنزيم يرمز له بالرمز ACE، وهو إنزيم مسؤول عن رفع ضغط الدم من خلال زيادة قدرة الجسم على حبس السوائل ومنع طرحها خارجاً. ويزداد هذا التاثير المخفض لارتفاع الضغط من خلال تخمير لبن الإبل وإنتاج اللبن الرائب منه، حيث تسهم البكتيريا النافعة المسؤولة عن التخمر في زيادة كمية البروتينات المثبطة لهذا الإنزيم.
2. التأثير المخفض لكولسترول الدم: أظهرت نتائج عدد من الدراسات التجريبية على الإنسان والحيوان قدرة لبن الإبل على خفض كولسترول الدم. وقد تعددت الفرضيات التي وضعت لتفسير هذا التأثير، فكان منها وجود حمض الاوروتيك Orotic acid وغيرها من الفرضيات التي تتمحور حول دور بروتينات اللبن في الحد من ارتفاع كولسترول الدم.
3. التأثير المخفض لسكر الدم: أظهرت نتائج الدراسات العلمية أن للبن الإبل دوراً مباشراً في خفض سكر الدم، وأكدت ذلك الدراسات التي أثبتت أن قبيلة الرايكا الهندية تمتاز بتدني الإصابة بداء السكري بين أهلها، نتيجة لارتفاع مستوى استهلاكهم للبن الإبل بالمقارنة مع غيرهم من السكان. كما أظهرت دراسات أخرى أن للبن الإبل قدرة على ضبط مستوى السكر في حيوانات التجارب المصابة بداء السكري من النوع الاول. ويعزى هذا التأثير إلى احتواء لبن الإبل على كميات كبيرة من مركبات طبيعية شبيهة بالانسولين المسؤول عن ضبط سكر الدم، كما أن لصغر حجم البروتينات المناعية في لبن الإبل دوراً في التقليل من ارتفاع سكر الدم من خلال تأثيرها الإيجابي على خلايا بيتا المفرزة لهذا الهرمون المنظم.
4. التأثير المضاد للأحياء المجهرية: أظهرت العديد من الدراسات قدرة لبن الإبل على مقاومة ومنع نمو الأحياء الدقيقة الممرضة مثل البكتيريا الموجبة لصبغة غرام مثل الليستيريا والاشيريشية القولونية والعنقودية الذهبية والسالمونيلا. وكما ذكر سابقاً، فإن هذا التأثير يعزى إلى وجود مركبات مانعة لنمو الجراثيم مثل إنزيم اللايسوزيم وبروتين اللاكتوفيرين وإنزيم اللاكتوبيروكسيديز والبروتينات المناعية المختلفة، وهي مركبات تتواجد بكميات أكبر في لبن الإبل بالمقارنة مع لبن البقر. ومع أهمية هذه الخاصية من الناحة الصحية، إلا أن لها تأثيراً سلبياً في عملية صنع اللبن الرائب من لبن الإبل، بفعل إنزيم اللايسوزيم الذي يعمل على إطالة الوقت اللازم لتكوين خثرة اللبن.
5. التأثير المخفض للتحسس. اقترح لبن الإبل مؤخرا ليكون الخيار الأفضل للذين يعانون من مرض تحسس بروتين اللبن البقري، وهو بديل أفضل من لبن فول الصويا الذي أظهرت الدراسات العلمية أنه يسبب التحسس كذلك لعدد من هؤلاء المرضى.
الخاتمة:
إن النتائج التي أبرزتها الدراسات العلمية الحديثة تؤكد أهمية لبن الإبل كأحد الأغذية الوظيفية والصحية المهمة، الأمر الذي يدفعنا إلى مزيد اهتمام بإكثار الإبل وزيادة أعدادها وتضخيم مزارعها، وكذا الاهتمام بلبنها من خلال تحسين ظروف ومدخلات إنتاجه وتطوير منتجاته، فضلاً عن تكثيف البحوث العلمية حول علاقته بالعلاج والوقاية من الأمراض المزمنة والمستعصية التي يزداد انتشارها في بلادنا يوماً بعد يوم، وخاصة السكري وأمراض القلب الوعائية والمتلازمة الأيضية وأنواع السرطان المختلفة. هذا دون ذكر الفوائد الاقتصادية والاجتماعية التي تعود بالتالي على العائلات القروية الفقيرة التي تعنى بالإبل وتربيها.
__________________________________
* أستاذ مساعد- قسم التغذية السريرية، كلية العلوم الطبية التطبيقية، جامعة حائل، المملكة العربية السعودية، كلية الصيدلة والعلوم الطبية، جامعة البترا، الأردن. وللراغبين بمتابعة البحث بكامله مراجعة الموقع www.quran-m.com
ملاحظة مهمة: اعتمد هذا المقال أساساً على المراجعة العلمية المنشورة في الدورية العالمية لبحوث الألبان:
Omar A. Al Haj, Hamad A. Al Kanhal. (2010). Compositional, technological and nutritional aspects of dromedary camel milk. International Dairy Journal, 20:811-821.
المراجع:
1. .قاموس القرآن الكريم/معجم الحيوان، مؤسسة الكويت للتقدم العلمي، ط 2، الكويت،1997 ، (النسخةالالكترونية).