ع.د.محمد فرشوخ
العدد التاسع والعشرون – ربيع 2014
جلس الحكيم وحيّا الحاضرين مجدداً ثم فتح باب الأسئلة واختار الإجابة على السؤال الأكثر إلحاحاً: ما الذي يجري عندنا وحولنا؟ ولم كل هذا العذاب وهذه المعاناة؟ ولماذا تكالبت علينا الأمم والأقوام من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب ومن أوروبا إلى وسط أفريقيا؟ وأين غوث الله تعالى من كل هذا الظلم؟ فأجاب بهدوء:
سأجيبكم بالسؤال: من أين هذه الجرأة على الله؟ عجباً لقوم يذنبون ويتباهون ولا يأبهون ليوم تشخص فيه الأبصار. وكلما سنحت لهم الظروف بالمعصية عادوا لما نهوا عنه. فتح الله لهم باب التوبة والمغفرة فأعرضوا حتى إذا أشرفوا على الموت استفاق بعضهم واستمر اكثرهم في غفلته ظاناً أنه سيخرج من أزمته سليما معافا كما في كل مرة.
أكلت الدنيا عقولهم وجللت الغفلة قلوبهم وعميت عيونهم عن جلاء الحقائق والتبصر بما هو آت، ولا مردّ له من الله.
حين سيقفون يوم العرض سيلقون باللائمة على غيرهم كما أخبرنا ربنا تبارك وتعالى، على كبرائهم أو على آبائهم وأمهاتهم وعلى العلماء وعلى أهل الحكم وعلى رفاق السوء، وسيكون لكل شريك في المعصية حسابه، لكن ذلك لن يسقط عنهم مسؤولية عدم اهتمامهم بتثقيف انفسهم وقلة سعيهم للتحصيل ولسماع الموعظة وللتوبة ولتغيير السلوك.
عجباً لعبد أدار ظهره لحقيقة الآخرة واهتم بالدنيا وظلالها وأوهامها، حتى إذا غنّى الناس غنّى وإذا رقصوا رقص وإذا طربوا طرِب وإذا شربوا شرِب. عجبا لمن جعل أهل المجون والخلاعة قدوته، فلم يفوّت على نفسه مشهداً لهم ولا حفلا، وإذا سمع الذكر أعرض وتولّى. قال الله تعالى في أمثاله: {لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا}، ثم وصفهم بما يصدم أصحاب العقول وأصحاب الكرامة والشهامة فقال: {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}. وصفهم بالأنعام وهي البهائم الأليفة لأنها تنقاد بسهولة إلى الذبح وهي تظن انها تقاد إلى المرعى. وكذلك الغافلون من غير تفكر ولا تدبر بعاقبة الأمور وبسوء المصير.
متى نعطي بعض وقتنا لمصلحتنا العليا، وكيف نصرف وقتنا الثمين، ألا يمكننا ان نخصص بضع دقائق لأداء الصلاة قبل أن نجلس لساعات على الشاشات. متى نعطي لأرواحنا ساعة تنشيط في الأسبوع نستمع فيها إلى الموعظة والتذكرة، نروّح بها عن نفوسنا ونجلوا خلالها صدورنا ونرفع بها الغلالة عن أعيننا والغفلة عن قلوبنا. يقول الله تعالى: {أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقاً؟ لا يستوون}. ويدعونا إلى المقارنة فيقول:{أفمن يمشي مكباً على وجهه أهدى أمّن يمشي سويا على صراط مستقيم؟}.
ويحذرنا ربنا سبحانه ألا تفقد عقولنا قدراتها على التمييز، فيقول: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا}.
إعرضوا حالكم على من تحبون من أهل التقوى وترتاحون إليه، وانظروا وتفكروا، قبل أن تقفل الأبواب وتبسط الأكفان ويجتمع عليكم الناس لوداعكم والله وحده يعلم إسراركم ومصيركم.
عجباً لمن يفضل أن يرسل أولاده إلى المقاهي على أن يرسلهم إلى المسجد ، وعجبا لمن لا يعرف كيف يؤدب أولاده ويوجه زوجته، ثم يرفض ان يدفعهم ليحصلوا شيئاً من التوعية الصحيحة عند أهل العلم والتقوى، حتى إذا شب ولده غافلاً بعيدا عن العلم وأهله، سطا عليه أهل التطرف فأسمعوه كلاما ملتهباً وحرضوه على ما لا تحمد عقباه. ولو تحصن عند أهل العلم والتقوى لرفض ما سيعرض عليه ولعرف كيف يرد عليهم ويتجنب دعواهم.
لا يسألن أحد لماذا تردى حال المسلمين فالجواب واضح من قوله تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} ، ومن قوله: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} . وكونوا من الذين قال فيهم: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} .
ولا يفرحن أحد بأنه قام بما عليه على صعيده الشخصي فالله تعالى يحذرنا قائلاً: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} . فقد يعمّ العذاب ولو كان بيننا صالحون، قال نبينا عليه الصلاة والسلام: “نعم إذا كثر الخبث”، أي عندما تصبح الأكثرية لاهية عاصية.
ولا ينجز الله تعالى وعده حتى يؤدي العباد ما فرضه الله عليهم: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} . فاستقيموا تنصروا، فقد قال جلّ وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}. فإذا استقمنا جاءنا الخير والأمن من كل صوب، واقرأوا إن شئتم في سورة هود: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} .
الم يقل ربنا لبني إسرائيل؟ {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ}.
انهى الحكيم الجلسة بالدعاء وذكّر الحاضرين بقول الله عزّ وجلّ: {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّه؟ِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }.