رضي الله عنه
الصحابي عَبْد الرَّحْمَن بْن عوف بْن عَبْد عوف بْن عَبْد بْن الحارث بْن زهرة بْن كلاب ابن مرة الْقُرَشِيّ الزُّهْرِيّ، يكنى أبا مُحَمَّد. كَانَ اسمه فِي الجاهلية: عَبْد عَمْرو، وقيل:عَبْد الكعبة، فسماه رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْد الرَّحْمَن. وأمه الشفا بِنْت عوف بن عبد بن الحارث ابن زهرة.
ولد بعد الفيل بعشر سنين، وأسلم قبل أن يدخل الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دار الأرقم وكان أحد الثمانية الَّذِيْنَ سبقوا إلى الْإِسْلَام، وأحد الخمسة الَّذِيْنَ أسلموا عَلَى يد أَبِي بَكْر، وكان من المهاجرين الأولين، هاجر إِلَى الحبشة، الْهِجْرَتَيْنِ جَمِيعًا وَإِلى المدينة. في أول الدعوة: وعن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لَمَّا آخَى بَيْنَ أَصْحَابِهِ آخَى بَيْنَ عَبْدِ الرَّحْمَن بْن عَوْفٍ وَسَعْدِ بْن أَبِي وَقَّاصٍ.
وآخى رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بْن الربيع. بعد هجرته إلى المدينة، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: لَمَّا هَاجَرَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ نَزَلَ عَلَى سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ فَقَالَ لَهُ سَعْدُ: هَذَا مَالِي فَأَنَا أُقَاسِمُكَهُ. وَلِيَ زَوْجَتَانِ فَأَنَا أَنْزِلُ لَكَ عَنْ إِحْدَاهُمَا. فَقَالَ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ. وَلَكِنْ إِذَا أَصْبَحْتُ فَدُلُّونِي عَلَى سُوقِكُمْ. فَدَلُّوهُ فَخَرَجَ فَرَجَعَ مَعَهُ بِحَمِيتٍ مِنْ سَمْنٍ وَأَقِطٍ قَدْ رَبِحَهُ.
قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – خَطَّ الدُّورَ بِالْمَدِينَةِ فَخَطَّ لِبَنِي زُهْرَةَ فِي نَاحِيَةٍ مِنْ مُؤَخَّرِ الْمَسْجِدِ. فَكَانَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ الْحَشُّ. وَالْحَشُّ نَخْلٌ صِغَارٌ لا يُسْقَى.
وكان، يشتري السمينة، والأقيطة والأهاب (الجلد قبل الدباغة)، فجمع. ثُمَّ ما لَبِثَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَلْبَثَ فَجَاءَ وَعَلَيْهِ رَدْعٌ من زعفران. [فقال رسول الله. ص: مَهْيَمْ؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً. قَالَ: فَمَا أَصْدَقْتَهَا؟ قَالَ: وَزْنُ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ. فَقَالَ: «بارك اللَّه لَكَ، أَوْلم ولو بشاة». قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: [فَلَقَدْ رَأَيْتُنِي وَلَوْ رَفَعْتُ حَجَرًا رَجَوْتُ أَنْ أُصِيبَ تَحْتَهُ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً] . وجعل الله تعالى ينمي له ماله من حيث لا يحتسب: ومن فرط ثروته أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنَ الأَنْصَارِ عَلَى ثَلاثِينَ أَلْفًا. قَالَ: فكثر ماله كان كَثِيْر الإنفاق فِي سبيل اللَّه، عزَّ وجلَّ، أعتق فِي يَوْم واحد ثلاثين عبدًا.
جهاده:
شهد عَبْد الرَّحْمَن بْن عوف بدرًا وأحدًا والخندق والمشاهد كلها مَعَ رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وثبت يوم أحد. مَعَ رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – حين ولى النّاس. وجرح يَوْم أحد إحدى وعشرين جراحة، وجرح فِي رجله فكان يعرج منها، وسقطت ثنيتاه فكان أهتم.
وقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَبْد الرحمن بن عوف أمين في السماء، أمين فِي الأرض»
وبعثه رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى دومة الجندل إلى كلب، وعممه بيده وسدلها بين كتفيه . وقَالَ لَهُ: إن فتح اللَّه عليك فتزوج ابْنَة ملكهم- أَوْ قَالَ: شريفهم- وكان الأصبغ بْن ثعلبة بْن ضمضم الكلبي شريفهم، فتزوج ابنته تماضر بِنْت الأصبغ، فولدت لَهُ أبا سَلَمة بْن عَبْد الرَّحْمَن.
لما سَيَّرَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِد بْن الوليد إلى بني جذيمة بعد فتح مكَّة، فقتل فيهم خَالِد خطأ، فودى رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم القتلى، وأعطاهم ثمن ما أخذ منهم. وكان بنو جذيمة قَدْ قتلوا فِي الجاهلية «عوف بْن عَبْد عوف» والد عَبْد الرَّحْمَن بْن عوف، وقتلوا الفاكة بْن المغيرة، عم خَالِد، فقال لَهُ عَبْد الرحمن: إنَّما قتلتهم لأنهم قتلوا عمك. وقَالَ خَالِد: إنَّما قتلوا أباك. وأغلظ فِي القول، وكَانَ بين خَالِد بْن الوليد وبين عَبْد الرَّحْمَن بْن عوف كلام، فَقَالَ خَالِد لعبد الرَّحْمَن: تستطيلون علينا بأيام سبقتمونا بها. فبلغ ذلك النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، فقال: «دعوا لي أصحابى، فو الّذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ ولا نصيفه».
خصوصيته مع رسول الله:
وسئل الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ: هَلْ أَمَّ النَّبِيَّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ غَيْرُ أَبِي بَكْرٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ فَزَادَهُ عِنْدِي تَصْدِيقًا الَّذِي قَرُبَ به الحديث. قل كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فِي سَفَرٍ(غزوة تبوك). فَلَمَّا كَانَ مِنَ السَّحَرِ ضَرَبَ عُنُقَ رَاحِلَتِي (كان يحمل وضوء رسول الله)، فَظَنَنْتُ أَنَّ لَهُ حَاجَةً. فَعَدَلْتُ مَعَهُ فَانْطَلَقْنَا حَتَّى تَبَرَّزْنَا عَنِ النَّاسِ فَنَزَلَ عَنْ رَاحِلَتِهِ ثُمَّ انْطَلَقَ فَتَغَيَّبَ عَنِّي حَتَّى مَا أَرَاهُ فَمَكَثَ طَوِيلا ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: حَاجَتُكَ يَا مُغِيرَةُ؟ قُلْتُ: مَا لِي حَاجَةٌ. قَالَ: فَهَلْ مَعَكَ مَاءٌ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. فَقُمْتُ إِلَى قِرْبَةٍ أَوْ قَالَ سَطِيحَةٍ مُعَلَّقَةٍ فِي آخِرِ الرَّحْلِ فَأَتَيْتُهُ بِهَا فَصَبَبْتُ عَلَيْهِ فغسل يديه فأحسن غسلها قال وأوشك دَلَكَهُمَا بِتُرَابٍ أَمْ لا. ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثُمَّ ذَهَبَ يَحْسِرُ عَنْ يَدَيْهِ وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ شَآمِيَّةٌ ضَيِّقَةُ الْكُمِّ فَضَاقَتْ فَأَخْرَجَ يَدَيْهِ مِنْ تَحْتِهَا إِخْرَاجًا فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ. قَالَ فَتَجِيءُ فِي الْحَدِيثِ غَسَلَ الْوَجْهَ مَرَّتَيْنِ فَلا أَدْرِي أَهَكَذَا كَانَ. ثُمَّ مَسَحَ بِنَاصِيَتِهِ وَمَسَحَ عَلَى الْعِمَامَةِ وَمَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ. ثُمَّ رَكِبْنَا فَأَدْرَكَنَا النَّاسَ وَقَدْ أُقِيمَتِ الصَّلاةُ. فَتَقَدَّمُهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَقَدْ صَلَّى رَكْعَةً وَهُمْ فِي الثانية. فذهبت أؤذنه فَنَهَانِي. فَصَلَّيْنَا الرَّكْعَةَ الَّتِي أَدْرَكْنَا وَقَضَيْنَا الَّتِي سَبَقَتْنَا.
وَقَالَ النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – حِينَ صَلَّى خَلْفَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ: مَا قُبِضَ نَبِيُّ قَطُّ حَتَّى يُصَلِّيَ خَلْفَ رَجُلٍ صَالِحٍ مِنْ أمته.]
عَنْ رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أَنَّهُ قَالَ: يَا ابْنَ عَوْفٍ. إِنَّكَ مِنَ الأَغْنِيَاءِ وَلَنْ تَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا زَحْفًا. فَأَقْرِضِ اللَّهَ يُطْلِقْ لَكَ قَدَمَيْكَ. قَالَ ابْنُ عَوْفٍ: وَمَا الَّذِي أُقْرِضُ اللَّهَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: تَبْدَأُ بِمَا أَمْسَيْتَ فِيهِ. قَالَ: أَمِنْ كُلِّهِ أَجْمَعَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ فَخَرَجَ ابْنُ عَوْفٍ وَهُوَ يَهُمُّ بِذَلِكَ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فَقَالَ: إِنَّ جِبْرِيلَ قَالَ: مُرِ ابْنَ عَوْفٍ فَلْيُضِفِ الضَّيْفَ وَلْيُطْعِمِ الْمِسْكِينَ وَلْيُعْطِ السَّائِلَ وَيَبْدَأْ بِمَنْ يَعُولُ فَإِنَّهُ إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ تَزْكِيَةَ مَا هُوَ فِيهِ] .
وروى معمر عن الزُّهْرِيّ قَالَ: تصدق عَبْد الرَّحْمَن بْن عوف عَلَى عهد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشطر ماله أربعة آلاف، ثُمَّ تصدق بأربعين ألفًا، ثُمَّ تصدق بأربعين ألف دينار، ثُمَّ حمل عَلَى خمسمائة فرس فِي سبيل اللَّه، ثُمَّ حمل عَلَى خمسمائة راحلة فِي سبيل اللَّه. وكان عامة ماله من التجارة.
ومن فرط بره أن قطع له رسول الله صلى الله عليه وسلم أرضاً بالشام من قبل أن تفتح: قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ قَطَعَ لِي رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أَرْضًا بِالشَّامِ يُقَالُ لَهَا السَّلِيلُ [فَتُوُفِّيَ النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وَلَمْ يَكْتُبْ لِي بِهَا كِتَابًا وَإِنَّمَا قَالَ لِي إِذَا فَتْحَ اللَّهُ عَلَيْنَا الشام فَهِيَ لَكَ] .
ومما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم: عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرحمن، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «فضل العالم عَلَى العابد سبعين درجة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض» .
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لعبد الرحمن بن عوف: كَيْفَ فَعَلْتَ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ فِي اسْتِلامِ الْحَجَرِ؟ قَالَ: كُلُّ ذَلِكَ فَعَلْتُ. اسْتَلَمْتُ وَتَرَكْتُ. فَقَالَ: أَصَبْتَ] .
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: وَقَدْ رَوَى عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ. وروى عَنْهُ ابْنُ عَبَّاس، وابن عُمَر، وجابر، وأنس وجبير بْن مطعم، وبنوه: إِبْرَاهِيم، وحميد، وأبو سَلَمة، ومصعب أولاد عَبْد الرَّحْمَن، والمسور بْن مخرمة، وهو ابْنُ أخت عَبْد الرَّحْمَن، وعبد اللَّه بْن عَامِر بْن رَبِيعة، ومالك بْن أوس بْن الحدثان، وغيرهم.
في عهد الخلفاء الراشدين:
عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ.صلى الله عليه وسلم. قَالَتْ: [سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يَقُولُ لأَزْوَاجِهِ إِنَّ الَّذِي يُحَافِظُ عَلَيْكُنَّ بَعْدِي لَهُوَ الصَّادِقُ الْبَارُّ. اللَّهُمَّ اسْقِ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ مِنْ سَلْسَبِيلِ الْجَنَّةِ] .
أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ بَاعَ أَمْوَالَهُ مِنْ كَيْدَمَةَ.وَهُوَ سَهْمُهُ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ. بِأَرْبَعِينَ أَلْفِ دِينَارٍ فَقَسَمَ ذَلِكَ فِي فُقَرَاءِ بَنِي زُهْرَةَ وَفِي ذِي الْحَاجَةِ مِنَ النَّاسِ وَفِي أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ الْمِسْوَرُ: فَأَتَيْتُ عَائِشَةَ بِنَصِيبِهَا مِنْ ذَلِكَ فَقَالَتْ: مَنْ أَرْسَلَ بِهَذَا؟ قُلْتُ: عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ. فَقَالَتْ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ: لا يَحْنُو عَلَيْكُنَّ بَعْدِي إِلا الصَّابِرُونَ. سَقَى اللَّهُ ابْنَ عَوْفٍ مِنْ سَلْسَبِيلِ الْجَنَّةِ] .
في الحج:
قَالُوا: لَمَّا اسْتُخْلِفَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ سَنَةَ ثَلاثَ عَشْرَةَ بَعَثَ تِلْكَ السَّنَةَ عَلَى الْحَجِّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فَحَجَّ بِالنَّاسِ وَحَجَّ مَعَ عُمَرَ أَيْضًا آخِرَ حَجَّةٍ حَجَّهَا عُمَرُ سَنَةَ ثَلاثٍ وَعِشْرِينَ. وَأَذِنَ عُمَرُ تِلْكَ السَّنَةَ لأَزْوَاجِ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فِي الْحَجِّ فَحُمِلْنَ فِي الْهَوَادِجِ وَبَعَثَ مَعَهُنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ. فَكَانَ عُثْمَانُ يَسِيرُ عَلَى رَاحِلَتِهِ أَمَامَهُنَّ فَلا يَدَعُ أَحَدًا يَدْنُو مِنْهُنَّ. وَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ يَسِيرُ مِنْ وَرَائِهِنَّ عَلَى رَاحِلَتِهِ فَلا يَدَعُ أَحَدًا يَدْنُو مِنْهُنَّ. وَيَنْزِلْنَ مَعَ عُمَرَ كُلَّ مَنْزِلٍ فَكَانَ عُثْمَانُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ يَنْزِلانِ بِهِنَّ فِي الشِّعَابِ فَيُقَبِّلانِهِنَّ الشِّعَابَ وَيَنْزِلانِ هُمَا فِي أَوَّلِ الشِّعْبِ فَلا يَتْرُكَانِ أَحَدًا يَمُرُّ عَلَيْهِنَّ. فَلَمَّا اسْتُخْلِفَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ بَعَثَ تِلْكَ السُّنَّةَ عَلَى الْحَجِّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ فَحَجَّ بِالنَّاسِ.
الشورى بعد عمر وعزوفه عن الدنيا:
ولما توفي عُمَر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ عَبْد الرَّحْمَن بْن عوف لأصحاب الشورى الَّذِيْنَ جعل عُمَر الخلافة فيهم: من يخرج نفسه مِنْها، ويختار للمسلمين؟ فلم يجيبوه إلى ذَلِكَ، فَقَالَ: أَنَا أخرج نفسي من الخلافة وأختار للمسلمين، فأجابوه إلى ذَلِكَ وأخذ مواثيقهم عَلَيْهِ، فاختار عثمان فبايعه.والقصة بعد ذلك معروفة.
جَعْفَرٍ عَنْ أُمِّ بَكْرِ بِنْتِ الْمِسْوَرِ عَنْ أَبِيهَا قَالَ: لَمَّا وَلِيَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ الشُّورَى كَانَ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَيَّ أَنْ يَلِيَهُ. فَإِنْ تَرَكَهُ فَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ. فَلَحِقَنِي عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ فَقَالَ: مَا ظَنُّ خَالِكَ بِاللَّهِ أَنْ وَلَّى هَذَا الأَمْرَ أَحَدًا وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ خَيْرٌ مِنْهُ. قَالَ فَقَالَ لِي مَا أُحِبُّ. فَأَتَيْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ. فَقَالَ: مَنْ قَالَ ذَلِكَ لَكَ؟ فَقُلْتُ: لا أُخْبِرُكُ. فَقَالَ: لَئِنْ لَمْ تُخْبِرْنِي لا أُكَلِّمُكَ أَبَدًا. فَقُلْتُ: عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ. فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: فو الله لأَنْ تُؤْخَذَ مُدْيَةٌ فَتُوضَعَ فِي حَلْقِي ثُمَّ ينفذ بها إلى جانب الآخَرِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ ذَلِكَ.
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ قَالَ لأَصْحَابِ الشُّورَى: هَلْ لَكُمْ إِلَى أَنْ أَخْتَارَ لَكُمْ وَأَتَفَصَّى مِنْهَا؟ فَقَالَ عَلِيٌّ: نَعَمْ. أَنَا أَوَّلُ مَنْ رَضِيَ فَإِنِّي [سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يَقُولُ أَنْتَ أَمِينٌ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ وَأَمِينٌ فِي أَهْلِ الأَرْضِ] .
إنفاقه:
وكان عظيم التجارة مجدودًا فيها، كَثِيْر المال. قيل: إنه دخل عَلَى أم سَلَمة فَقَالَ: يا أمه، قَدْ خفت أن يهلكني كثرة مالي. قَالَتْ: «يا بني، أنفق» .
قدمت لَهُ سبعمائة راحلة تحمل البر، وتحمل الدقيق والطعام. قَالَ: فلما دخلت المدينة سمع لأهل المدينة رجة، فقالت عَائِشَة: ما هَذِهِ الرجة؟ فقيل لها: عير قدمت لعبد الرَّحْمَن بْن عوف، سبعمائة بعير تحمل البر والدقيق والطعام. فقالت عائشة: سمعت النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «يدخل عَبْد الرَّحْمَن بْن عوف الجنة حبوًا. فلما بلغ ذَلِكَ عَبْد الرَّحْمَن قَالَ: يا أمّه إني أشهدك أنها بأحمالها وأحلاسها (جلالها وكسوتها) وأقتابها (حبالها)، فِي سبيل اللَّه عزَّ وجلَّ» .
ذِكْرُ صِفَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ:
كَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رَجُلا طَوِيلا حَسَنَ الْوَجْهِ رَقِيقَ الْبَشَرَةِ. فِيهِ جَنَأٌ. أَبْيَضَ مُشْرَبًا حُمْرَةً. ، أعين (واسع) أهدب الأشفار، أقنى (الأنف دقيقه)، لَهُ جمة ضخم الكفين، غليظ الأصابع. لا يُغَيِّرُ لِحْيَتَهُ وَلا رَأْسَهُ. (لا يصبغ من الشيب).
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – رَخَّصَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فِي قَمِيصٍ مِنْ حَرِيرٍ فِي سَفَرٍ مِنْ حِكَّةٍ كَانَ يَجِدُهَا بِجِلْدِهِ.
وتزوج عبد الرحمن مرارا وكان له كثير من الولد مات بعضهم في الجاهلية واستشهد بعضهم في الفتوحات.
أن عَبْد الرحمن أتي بطعام، وكان صائمًا، فَقَالَ: قتل مصعب ابن عمير، وهو خير مني فكفن فِي بردته، إن غطي رأسه بدت رجلاه، وإن غطي رجلاه بدا رأسه- وأراه قَالَ: وقتل حمزة وهو خير مني- ثُمَّ بسط لنا من الدنيا ما بسط- أَوْ قَالَ:
أعطينا من الدنيا ما أعطينا- وَقَدْ خشينا أن تكون حسناتنا عجلت لنا، ثُمَّ جعل يبكي حتَّى ترك الطعام .
ذِكْرُ وَفَاةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وحمل سريرة وما قيل بعد وفاته:
قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ الْعَبْدِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ: أُغْمِيَ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ: أَغُشِيَ عَلَيَّ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: فَإِنَّهُ أَتَانِي مَلَكَانِ أَوْ رَجُلانِ فِيهِمَا فَظَاظَةٌ وَغِلْظَةٌ فَانْطَلَقَا بِي ثُمَّ أَتَانِي رَجُلانِ أَوْ مَلَكَانِ هُمَا أَرَقُّ مِنْهُمَا وَأَرْحَمُ فَقَالا: أَيْنَ تُرِيدَانِ بِهِ؟ قَالا: نُرِيدُ بِهِ الْعَزِيزَ الأَمِينَ. قَالا: خَلِّيَا عَنْهُ فَإِنَّهُ مِمَّنْ كُتِبَتْ لَهُ السَّعَادَةُ وَهُوَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ.
ولما غُشِيَ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ غِشْيَةً ظَنُّوا أَنَّ نَفْسَهُ فِيهَا. فَخَرَجَتِ امْرَأَتُهُ أُمُّ كُلْثُومٍ وَكَانَتْ مِنَ الْمُهَاجِرَاتِ الأُوَلِ إِلَى الْمَسْجِدِ تَسْتَعِينُ بِمَا أُمِرَتْ أَنْ تَسْتَعِينَ بِهِ مِنَ الصَّبْرِ وَالصَّلاةِ. مصداقاً لقَوْلِهِ تعالى: اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ.
مَاتَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَلاثِينَ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ ابْنُ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ. ووقف سَعْدَ بْنَ مَالِكٍ عِنْدَ قَائِمَتَيْ سَرِيرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عوف وهو يقول: وا جبلاه. قَالَ يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ فِي حَدِيثِهِ: وَوُضِعَ السَّرِيرُ عَلَى كَاهِلِهِ.
أَوْصَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فِي السَّبِيلِ بِخَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ.وتَرَكَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أَلْفَ بَعِيرٍ وَثَلاثَةَ آلافِ شَاةٍ بِالْبَقِيعِ وَمِائَةَ فَرَسٍ تَرْعَى بِالْبَقِيعِ. وَكَانَ يَزْرَعُ بِالْجُرُفِ عَلَى عِشْرِينَ نَاضِحًا. وَكَانَ يُدْخِلُ قُوتَ أَهْلِهِ مِنْ ذَلِكَ سَنَةً. وَتَرَكَ أَرْبَعَ نِسْوَةٍ فَأُخْرِجَتِ امْرَأَةٌ مِمَّنْ ثُمْنُهَا بِثَمَانِينَ أَلْفًا.
وخلف مالًا عظيمًا، من [ذَلِكَ] ذهب قطع بالفئوس، حتَّى مجلت أيدي الرجال مِنْهُ، وترك ألف بعير، ومائة فرس، وثلاثة آلاف شاة ترعي بالبقيع وكان له أربع نسوة، أخرجت امْرَأَة بثمانين ألفًا- يعني صولحت.
وتوفي سنة إحدى وثلاثين بالمدينة، وهو ابْنُ خمس وسبعين سنة، وأوصى بخمسين ألف دينار فِي سبيل اللَّه، وأوصى عَبْد الرَّحْمَن لمن بقي ممن شهد بدرًا، لكل رَجُل أربعمائة دينار، وكانوا مائة، فأخذوها، وأخذها عثمان فيمن أخذ: وأوصى بألف فرس في سبيل الله.
ولما مات قَالَ عليّ بْن أَبِي طَالِب: «اذهب يا ابْنُ عوف قَدْ أدركت صفوها، وسبقت رنقها» ، وكان سعد بن أَبِي وقاص فيمن حمل جنازته، وهو يقول: وا جبلاه.