بقلم أ.ع.
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، ليعلم الناس الكتاب والحكمة ويزكيهم، والصلاة والسلام على نبي الهدى الذي ما تعلق به امرؤ إلا هدي إلى الصراط المستقيم وما تجاهله أحد إلا ضلّ أو أضلّ، وصار حيراناً حتى ولو تحلّى برجاحة العقل ونفاذ الرأي.
الحكمة التي زوّد بها المولى تعالى نبيّه الأمي هي الفضل الزائد الفائض من الله تعالى على عباده الصالحين. قال تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 151]. فتزيدهم باكتساب الحكمة نوراً على نور.
والحكمة كما أجمع السلف الصالح تجمع التفقه في دين الله، وفي شرعه وأحكامه، وفي فهم وتطبيق أمره ونهيه، وفي إعمال العقل وفهم مقتضى الحال وحسن التصرف، ويختصرها سماحة الشيخ الدكتور أحمد كفتارو رحمه الله بتعريفه: (الحكمة هي فعل ما ينبغي على الشكل الذي ينبغي في الوقت الذي ينبغي).
وكلهم من رسول الله ملتمس وهو المعلم الأول والأكبر صلّى الله عليه وسلّم. ونرجو الله تعالى ان يوفقنا في عرض بعض حكمة هذا النبي العظيم.
حكمته قبل النبوة:
لو راقبنا سيرة رسول الله حتى ولو قبل النبوة للاحظنا أنه مفطور على الحكمة، فقد فرض حسن أدائه على قومه أن دعوه بالصادق الأمين، ومن حكمته السجيّة أنه فض نزاع كبار قومه عند إعادة بناء الكعبة واختلافهم على شرف نقل الحجر الأسعد ووضعه في الركن الحجازي من الكعبة. ففرش عباءته ووضع الحجر المبارك في وسطها وأنال كلاً منهم شرف مسك طرف منها.
ومن حكمته قبل النبوة أنه حينما قفل عائداً من تجارته في الشام متاجراً للسيدة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، بعث ميسرة خادمها أمامه ليبشر خديجة بما أصابوا في سفرهم من المنفعة، فأخبر ميسرة سيدته عن التجارة والربح وكذلك عن بركة محمدٍ وأمانته وحسن خلقه وطيب معشره، مما جعلها تتمناه زوجاً وشريكا.
ومن حكمته عندما بدأ يخلو في الغار متعبدا أنه اتصف بالهدوء على الرغم من قلقه وذهب إلى زوجته العاقلة الراشدة يسألها العون لتدله على من يفسر له معنى الضوء الذي يراه والصوت الذي يسمعه راجياً ألا يكون به جنن.
حكمته عند البعثة:
ثم عجبا لهذا النبيّ الحكيم، فعندما أنبأه الملَك بأنه رسول الله، لم يضج ولم يصخب ولم يعجل ولم يتعمد إشاعة الخبر بين الناس، بل تلقى الأمر بهدوء، وتعامل مع الواقع الجديد برويّة. ولم يخبر الخبر إلا لمحيطه الأقرب، الزوجة والصديق والخادم والحاضنة والفتية الأطهار. وأنزل الله تعالى في ذلك قوله: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)} [الشعراء: 214].
ويؤكد هذا الأداء الحكيم بعد ذلك تلقيه الأمر الإلهي بالدعوة إلى الله في العلن لكن مع تجنب المشركين، وذلك قوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ } [الحجر: 94]. والمعنى أن يتخير ذوي الفطرة السليمة من محيطه دون سواهم من السفهاء الجاهلين. فالدعوة لا تزال غضّة طريّة العود، لا تتحمل المواجهات ولا الصدمات.
ثم يشيع الخبر ويخرج النبي الكريم ليدعو لله الواحد، والتوحيد يفترض نقد الشرك ونقضه، فضجّ المشركون إذ عاب آلهتهم وذكرها بالنقص والعجز والجمود. فجاءت وجوه قريش واحداً بعد الآخر تحاول أن تثني محمداً عن عزمه، أو يشرك إلهه مع آلهتهم والكعبة تتسع للمزيد، فتظهر من النبي الحكيم حكمة جديدة وهي فقه التعاطي مع زعماء قريش كلٍ على طريقته.
يقرر أن يقرأ على الوليد بن المغيرة ذلك الكهل الثري المستشار شيئاً من القرآن الحكيم، فيتلو من أول سورة غافر، وإذ بالوليد يرد: (أعِد يا ابن أخي)، فقد أوشك هذا المشرك على الإيمان أو كاد، لكن سرعان ما ردّه جبروته وإصغاؤه لأبي جهل إلى سابق شركه.
ويرد على من جاء يرقيه من الجنون الذي اتهِم به زورا، فيبادل طلاسم الطبيب ورقية الجاهلية بنظم منثور بديع يبهت كل عاقلٍ حكيم: “الحمد الله نحمده ونستعينه ونؤمن به ونتوكل عليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله”، ليعلم ذلك الطبيب أنه هو المحتاج إلى الرقية لا النبي صلى الله عليه وسلم.
ويتّبِع مع صديق والده حصين بن عتبة والد الصحابي الشاب عمران بن حصين أسلوباً مغايراً فيستفز عقله وشهامته، سائلاً الشيخَ المشرك: يا حصين كم تعبد من إله ؟ قال: سبعاً في الأرض وواحداً في السماء. قال: فإذا أصابك الضر من تدعو؟ قال: الذي في السماء قال: فإذا هلك المال من تدعو؟ قال: الذي في السماء، قال: فيستجيب لك وحده وتشركه معهم؟ أأرضيته في الشكر أم تخاف أن يُغلب عليك؟ قال: ولا واحدة من هاتين، فقال صلى الله عليه وسلم: يا حصين أسلم تسلم قال حصين :إن لي قوماً وعشيرة فماذا أقول؟ قال قل: “اللهم أستهديك لأرشد أمري وزدني علماً ينفعني”، فقالها حصين فلم يقم حتى أسلم.
ويقول لمعاوية بن حيدة ومن معه مرهبا: “ما لي أمسك بحجزكم عن النار؟ ألا إن ربي عز وجل داعيَّ، وإنه سائلي: هل بلّغتَ عبادي؟ وإني قائل: ربِّ إني قد بلّغتهم، فليبلّغ الشاهد منكم الغائب…”.
ما تم عرضه ليس إلا مقدمة لعرض حكمة النبي المصطفى، عليه الصلاة والسلام، تباعاً وفي الأعداد القادمة إن شاء الله. ففي كل عمل من أعمال رسول الله او أقواله، وحتى من إحجامه عن فعل أو قول، يتعلم المرء حكمةً ولربما حكماً عدة. وصدق المولى العظيم القائل: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ…} [سورة الأحزاب: 21]. فهنيئاً لمن أحب رسول الله وتتبع سيرته واهتدى بهديه فاكتسب من حكمته، وخاب وخسر من رأى في رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً أنهى مهمته وتقاعد، فقعدت عنه حكمته ورشده وبصيرته. وإن الله سائله عن تقاعسه ذاك يوم القيامة.