ع.د. محمد فرشوخ
العدد السادس والثلاثون – شتاء 2016
ما أن أخذ الحكيم مقعده، حتى رفع شاب يده مستأذناً بالسؤال، أومأ الحكيم برأسه إيجاباً فقال الشاب: ما هي علّة الذي يعجز عن القيام لصلاة الفجر، ويتكاسل في أداء بقية صلاة يومه، ولا يصوم إلا شهر رمضان، ولا يقرأ القرآن إلا نادرا، ويشعر بقسوة في قلبه وجفاف في دمع عينه، وضيق في ذات يده؟
أطرق الحكيم قليلا ثم قال للشاب: إجلس عافاك الله وعافانا من الغفلة والكسل والخمول والقسوة. بارك الله فيك لأن أول المعافاة الشجاعة في مواجهة العلة ومصارحة النفس بها والسؤال عن علاجها. يا أخي كم من إنسان واقع في هذا الحال وهو يتغاضى عما نزل به من بلاء روحي، ورضي بتقاعس الجسم وغفلة القلب وانشغال العقل. كم من شاب وشابة بلغا سن النضوج ولم ينضجا بعد. قد رضيا بالمرض ولم يواجها نفسيهما بالحقيقة ولم يبحثا لا عن العلاج ولا عن المعالج؟
أيها الأحبة. قال تعالى: {وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ} [النساء: 128].أس البلوى من نفس الانسان جبلت على الشح والشهوة والكسل والخمول، تخاف من الجوع كي لا تهلك ومن العطاء كي لا تفتقر ومن الفقر كي لا تشقى، كثيرة التمني، قال نبينا عليه الصلاة والسلام: “والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني”. النفس ضعيفة الهمة، تحب ان تحمد بما لم تفعل، تنسب إلى نفسها المجد والعزة وتحب أن تتصدر وتترأس، وأن تُمدح وتُكرم. إلى أن يصل الأمر بها إلى التنافس والحسد والبغض والبغي والطغيان، فتنتقل من آفة الخمول إلى الابتلاء بالعيوب ثم إلى اعتمادالأذى والفجوروالشرور.قال تعالى: {وَمِنْشَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)} [الفلق]. وكان عليه الصلاة والسلام يكثر في خطبه من القول:”وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا،..”. فعلّمنا أن نستعين بالله عليها نظراً لخطورة انحرافها ولشدة تأثيرها على مصائرنا، فكان يقول: ” اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا، وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا، أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا،…”.
كما علّمنا أن النفس تشكل على صاحبها خطراً جسيماً إذا تفلتت، فينبغي كبح جماحها حتى لا ترتكب ما لا تحمد عقباه. وربما كانت القاضية على صاحبها المهلكة له بين يدي ربه، فكان عليه الصلاة والسلام يقول: “اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو، فلا تَكِلْنِي إلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ،وَأَصْلحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ، لاَ إلهَ إلاَّ أَنْتَ”.
حقها أن تخاف من الجوع لكنها إذا شبعت بطرت، وحقها أن ترتاح من تعب، لكنها إذا اخلدت إلى النوم كسلت وتقاعست، وحقها أن تنال حظها من الحياة لكنها إذا ذاقت طعم النعيم انغمست في الشهوات ونسيت ربها واليوم الآخر.
والله سبحانه ينبهنا إلى الاعتدال في كل أمر فيقول: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} [الإسراء: 29]. ويشدد النبي صلى الله عليه وسلم على أن ينال الانسان حظه من كل شيء ولكن باعتدال ودون إفراط فيقول: “أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني”.
التوبة والندم على ما فات شرط لازم يا اخي وكذلك كثرة الاستغفار، وفي ذلك دليل على صدق الطلب، حتى يهديك الله إلى الطبيب المداوي، ولا تعدم أمة محمد صلى الله عليه وسلم من الأطباء المرشدين المربين على الرغم من قلة عددهم. وهم الذين تربوا من قبل على يد أسلافهم من السلف الصالح وصولاً إلى من تربى على يد النبي صلى الله عليه وسلم. يدل الله عليهم فيقول:{اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [يس: 21]،ويدلنا على صفتهم الأولى فيقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119]، ويقول الله تعالى فيهم: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ } [الأنعام: 90]. فالحكيم هو الذي يعلمنا كيف نكشف ألاعيب النفس وحبائل الشيطان، كي لا يلتفان علينا ويخدعاننا، ويعلّم كلاً منا ان يشعِر نفسه أنه يقف لها بالمرصاد. يؤدبها لنا ويعلمها أن تراقب الله في حركاتها وسكناتها، وأن ربنا واسع عليم، لا يضل ولا ينسى. وأنه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وانه سيخرج أثقالها من مكنونات صدرها يوم القيامة، فلتستقم ولتتجنب الفضيحة.
ثم يأتي وقت الدواء، ودواء النفس يبدأ بمخالفتها بغية تهذيبها وتعليمها مهما بلغ من العمر، يقول الله تعالى:{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)} [النازعات]. فما من نفس شبعت إلا بطرت وما أن بطرت حتى غفلت عن الحق، حق الناس وحق الله، وما أن غفلت حتى انغمست في تحقيق الشهوات حتى تصل إلى مرحلة اللاعودة عن الضلال. قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179].
مخالفة النفس ومجاهدتها تعنيان علو الهمة وبذل الخدمة وتقديم المساعدة كلما سنحت فرصة أو لاحت حادثة، والله تعالى يحثنا على ذلك فيقول: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُو َيُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُم ْلَا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)} [النحل].
والمربي الحكيم، يوجه الطالب بدايةً إلى مخالفته لرغبات نفسه في كل أمر، حتى في الإنفاق، فهي تحب ان تنفق على ملذاتها وهو يوجهها لتنفق على المحتاجين من غير جاهٍ ولا رياء. فيعلمه كيف ينفق القليل القليل، يقول تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ } [البقرة: 219]. حتى إذا شعر بالرضى والراحة ينفق المزيد شيئاً فشيئاً.يقول الله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَل ِحَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261].
تصارع النفس صاحبها عند كل وضوء وكل صلاة وعند كل صيام وعند كل صدقة، إلى أن يترك الأهل والولد والمال ويقصد البيت الحرام حاجاً أو معتمرا، ويلبس أبسط الثياب ويعانى من وعثاء السفر؟ ومن أهم مجاهدات النفس إجبارها على حضور مجالس العلم وعلى صلاة الجماعة. قال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِين َيَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)} [الكهف]. والشرط هنا هو تغيير الصحبة السيئة والانتقال إلى صحبة صالحة تدل على الخير وتشجع عليه.
وأما من استجاب لرغبات نفسه وأحجم عن العمل وعن الطاعة فلن يضر الله شيئا وإنما صار أسير نفسه وهواه ولا يلومنّ إلا نفسه. ومن استجاب لأمر الله بأداء فرائضه بالسماحة والرضى، فقد أفلح وسعِد في الدنيا قبل الآخرة.قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم -: “ألا أدلكم على ما يرفع الله به الدرجات، ويكفر به الخطايا؟ إسباغ الوضوء في المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة”.
في كل طاعة يؤديها الانسان مخالفة لنفسه، وتأديب لها وتهذيب، وكل من لا يخالف نفسه وينساق مع شهوته يجد لذة ساعة ثم يشعر بالشقوة والقسوة وقد لا يؤول أمره إلى خير، لقول الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) } [النازعات]. ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: “حُفّت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات”.
ولهذا ترى المؤمن والمؤمنة هادئين ساكنين راضيين مطمئنين قانعين يرجوان رحمة ربهما ويخشيان عذابه واقفين يسألانه حسن الختام في الدنيا، والإنعام والإكرام في الآخرة. فقد زالت الحجب عن القلب وجلت لهما الحقيقة، وصارت الدنيا عندهما مطيّة لحسن ثواب الآخرة.
ختم الحكيم إجابته بخلاصة قصيرة قائلاً: النجاة في ثلاثة: حب الله ورسوله وكثرة ذكر الله ومجاهدة النفس، ومن جاهدها فقد أطاع الله ومن أطاع الله فقد أفلح. قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14)} [الأعلى].أما عندما تعجبك نفسك وتلبي غرائزها وتذعن لها فاعلم أنك لست بخير.