بقلم أ.ع.
إن الهجرة كانت محطة هامة في حياة المسلمين وفي تاريخهم السابق واللاحق، لأنها أظهرت الإسلام على العالم كله، وانتقلت بالمسلمين من إسلام الأفراد إلى إسلام المجتمعات والأمم، ولذلك اعتمدت كمنطلق للتأريخ والتقويم الإسلامي، في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، بدلاً من العرف المعتمد على تاريخ ميلاد أحد أو وفاته مهما عظُم شأنه.
وقد أسس النبي صلى الله عليه وسلم المجتمع الإسلامي الأول على عدة ركائز أساسية أهمها: المدينة الفاضلة ومركزها الرئيسي المسجد، وهو مقر الدين ومقر التشريع ومقر الدولة، ثم تنظيم العلاقات داخل هذا المجتمع من خلال المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، ثم بناء شخصية المجتمع الجديد وتدعيم خصائصه الفريدة ليكون القدوة والمثل عبر تنظيم العلاقة مع الجيران المشركين منهم واليهود.
1-تأسيس المدينة الفاضلة:
بقدوم المعلم الأول صلى الله عليه وسلم بدأت المدينة تأخذ منحىً جديداً وإطلالة جديدة في كل شيء وارتدت حلّة العاصمة والمقر فصارت دار الإسلام والسلام بعد أن كانت داراً للحروب والفتن، وداراً للنظافة والنظام بعد أن كانت داراً للأوبئة والأمراض والفوضى. ما أن استقر النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة حتى قرر أن يجعل أسرته وأسر الخُلّص من أصحابه قدوةً ومثلاً للمجتمع، فأرسل في طلب بناته وزوجته سودة بنت زمعة، من مكة المكرمة وكذلك فعل أبو بكر الصديق رضي الله عنه وسائر الصحابة الكرام. وخلال السنة الأولى من الهجرة تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم من عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما.
وكان صلى الله عليه وسلم شديد القلق على الصحابة الذين حجزتهم قريش في مكة ومنعتهم من الهجرة وكان يخشى عليهم من أن يضطروا إلى الخروج من ربقة الإسلام ويعودوا في ملة آبائهم من جديد، فكان يقنت في صلاة الصبح ويدعو في قنوته، لأصحابه المحتجزين وعلى الذين يحتجزونهم.
ثم لم يزل يدعو لهم حتى نجاهم الله تعالى.
بدأ النبي صلى الله عليه وسلم يعلّم أصحابه أمور الدنيا والآخرة ودخل معهم في أدق تفاصيل حياتهم، في تربية أطفالهم، فيقول:”مروا أولادكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع”، وفي آداب معاشرة نسائهم شكت خولة بنت حكيم زوجها عثمان بن مظعون قيامه بالليل فقال له:” يا عثمان إن الرهبانية لم تكتب علينا، أما لك بي أسوة؟ والله إن أخشاكم لله وحدوده لأنا”. وفي آداب المسجد وفي آداب المجتمع، روى عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال:(كان أول ما سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم قوله: “أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام”). كما قال صلى الله عليه وسلم: “ليس منا من لم يوقّر كبيرنا ويرحم صغيرنا”.
واهتم كذلك بتـنظيم أمورهم الاقتصادية والمعيشية، فعني باستقلالهم وعدم استغلال اليهود لهم اجتماعياً واقتصادياً، فخرج إلى ناحية من المدينة وخط خطاً كبيراً وقال: “هذه سوق المسلمين يبيعون فيها ويشترون وليس لأحد عليهم منّة”، وشجع الصناعة المحلية: وحضّ المسلمين على العمل فقال: “ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده”، فمع أنه كان ملكاً مفخماً فقد كان ينسج الدروع ويبيعها. وأعان العبيد من المسلمين على المكاتبة ليتحرروا من الرق، وحرّض أصحابه على إعانتهم ومؤازرتهم، وشجع على التجارة فقال: “تسعة أعشار أرزاق أمتي في التجارة”. وكان أهل المدينة من أخبث الناس كيلاً، فأنزل تعالى:”وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ” فصاروا أكثر الناس أمانة وضربوا للناس بها مثلاً.
وأصبحت المدينة في وقت قصير مقصداً فلئن كان الحج إلى بيت الله الحرام لا يزال محظراً على المسلمين فإن القصد إلى مدينة الرسول الكريم وتلقي الدين عن المعلم بات فرضاً شرعياً، قال صلى الله عليه وسلم: “لا تُشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد:المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى”. كما قال: “إن الإيمان ليأرِز إلى المدينة كما تأرِز الحية إلى جحرها”.
2-المساواة بين المسلمين:
طلب النبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار أن يؤوا إخوانهم المهاجرين وينصرونهم بالمال والجوار، قال: “إن إخوانكم قد تركوا الأموال والأولاد وخرجوا إليكم”. فتجاوب الأنصار بصورة مذهلة وهبّوا لنصرة إخوانهم المهاجرين وتقاسموا الأموال والدور والعمال والثمار وجعل بعضهم (سعد الربيع) يعرض بعض زوجاته على أخيه المهاجر(عبد الرحمن بن عوف) ليطلقها له .
وخطّ النبي صلى الله عليه وسلم للمهاجرين بيوتاً في كل أرض ليست لأحد وفيما وهبه الأنصار من أملاكهم، رضي الله عنهم.
ولخمسة أشهر من الهجرة آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين المسلمين من مهاجرين وأنصار، وقال: “تآخوا في الله أخوين أخوين”. فذابت الفوارق الاجتماعية الموروثة عن الجاهلية وانحلت عقد التكبر والاستعلاء والتمييز الطبقي والعنصري، وصارت التقوى والتضحية والخدمة مقياساً للتفاضل بين الناس. وعمّت فضيلة التكافل الاجتماعي والتعاون على البر والتقوى والإيثار بالمال والطعام والجهد والتناصح في الله والتزاور في الله.وأثنى الله تعالى على الفريقين فقال:
{لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ {8} وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[الحشر: 8،9].
أذهبت المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار وحشة الغربة لدى المهاجرين وآنستهم لبعد الأهل والعشيرة وشدت أزر بعضهم ببعض، ووصل بهم الحال في بادئ الأمر إلى التوارث، فلما عزّ الإسلام واجتمع الشمل وذهبت الوحشة واستقرت الأحوال، بطل التوارث وعاد كل امرئ إلى نسبه وذوي رحمه فأنزل الله تعالى قوله:{وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا ْ}[الأحزاب:6].
وبالرغم مما بذله الأنصار لإخوانهم المهاجرين فإن هؤلاء لم يقبلوا من الأنصار إلا حاجتهم وما يكفيهم بالحد الأدنى.
أدت المؤاخاة إلى حل سريع لمشاكل المهاجرين الحياتية لكي لا يلهيهم ذلك عن الدعوة إلى الله ولينصرفوا إلى الجهاد في سبيله.
وفي العدد القادم إن شاء الله نعرض لحكمة النبي صلى الله عليه وسلم في جعل المدينة مكاناً ترتاح إليه الأنفس والأجسام والأرواح.