د. صبحي شوقي زُردق*
العدد التاسع والأربعون ربيع 2019 – 49
مقدمة
الليل والنهار آيتان من آيات الرحمن، فالنهار للحركة والمعاش والليل للسكن والنوم،أما إذا اعترضت أحدنا مشكلة أو أزمة سببت له الخوف والقلق فإن النظام الرباني -والذى أشرنا إليه بين النشاط نهاراً والنوم ليلاً- سوف يختل، وهذا الإختلال سوف يترتب عليه خلل في نظام الجسم الفسيولوجي والنفسي في شكل الشعور بالإجهاد والمشقة، بسبب اختلال عملية النوم…وفي مقالتي أحاول اثبات حقائق تحدث عنها العلم الحديث من خلال آية قرآنية واحدة … فقال تعالى في شأن الليلة التي سبقت غزوة بدر:
{إإِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ} (الأنفال:11)
في تفسير ابن كثير: يذكرهم الله بما أنعم به عليهم من إلقائه النعاس عليهم، أماناً من خوفهم الذي حصل لهم من كثرة عدوهم وقلة عددهم، وكذلك فعل تعالى بهم يوم أحد، كما قال تعالى:{ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم}[آل عمران : 154]. قال أبو طلحة كنت ممن أصابه النعاس يوم أُحد، ولقد سقط السيف من يدي مرارا، يسقط وآخذه، ويسقط وآخذه، ولقد نظرت إليهم يميدون وهم تحت الحجف( أي الدروع).
إذاً قد أنزل الله عز وجل “النعاس” على جُند المسلمين في معركة بدر الكبرى ومعركة أحد … وهو الأمر الملفت للنظر…ليكون السؤال المباشر الذى يَرد على الأذهان هو : هل هناك يا تُرى من فائدة علمية وراء إنزال “النعاس”، وفي تلك الأوقات العصيبة تحديداً؟
حقائق في علم النفس و الأعصاب
قبل البدء في الحديث عن الإعجاز في الآية،هناك حقائق علمية لا بد لنا أولاًمعرفتها والوقوف عليها، وهى حقائق قد زَودنا بها العلم الحديث في مجالي علم النفس وعلم المخ والأعصاب،هذه الحقائق هي :
الحقيقة الأولى
إن خوض الحرب أو انتظارها من الضواغط النفسية من الدرجة الخامسة (الدرجة الكارثية)، وهي الدرجة الأشد على الإطلاق، فعلماء النفس قد قسموا الضواغط النفسية stressors- طبقاً لشدتها إلى خمس مستويات وهى : خفيفة، متوسطة، شديدة، بالغة الشدة، وكارثية.
والضواغط الكارثية (المُذهلة) هى الضواغط والأحداث التي يخشى الإنسان فيها على نفسه أو على غيره من الموت والهلاك، وهى مثل معايشة لحظات الكوارث الطبيعية مثل الزلازل والفيضانات، أو كوارث من صنع البشر مثل الحروب والإنفجارات النووية…
وبناءً على تلك الحقيقة العلمية فإن الجنود في جيش المسلمين ليلة معركة بدر كانوا قد عاشوا أشد أنواع ومصادر الضغوط زلزلةً و تأثيراً على النفس .
الحقيقة الثانية
ينقسم الجهاز العصبي التلقائي إلى جهاز عصبي سمبثاوي (الوِدي)، والجهاز العصبي الباراسمبثاوي (اللاوَدي)، لكن الضغوط النفسية الشديدة تسببتهيجاً كبيراً فقط في الجهاز العصبي السمبثاوي (الوِدي).
الحقيقة الثالثة
إن تهيج واستثارة الجهاز العصبيالسمبثاوي (الوِدي) يسبب صعوبة الدخول في النوم، كما أن التهيج في السمبثاوييؤدي إلىتثبيطالجهاز العصبي الباراسمبثاوي (اللاودي) الذى يعمل أثناء النوم على توفير الطاقة وإعادة بناء ما تلف أثناء اليقظة، ولن يقوم الباراسمبثاوي بعمله إلا إذا انطفأ وتوقف نشاط السمبثاوي أولاً.
الحقيقة الرابعة
إن نشاط الجهاز السمبثاوي الزائد نتيجة الخوف والقلق أو أي كرب عموماً يزيد من مؤشر اليقظة والحذر في بداية الأمر، ولكن هذا الخوف إذا طالت مدته أو زادت شدته فقد يؤدي ليس فقطإلى طرد النوم من العين، بل وأيضاً إلى استنفاذ طاقة ونشاط الجسم،مما قد يؤدي إلى الدخول فى”حالة الإجهاد” الذهني والبدني، مع الفتور، وضعف النشاط لدى الشخص الخائف .
الحقيقة الخامسة
إن فرط نشاط الجهاز السمبثاوي (الودي) على حساب الباراسمبثاوي يؤدي إلى حالة مؤقتة من عدم التوازن بين الجهازين هو ما يُسمى طبياً بــ” عدم التوازن العصبي الذاتي”Autonomic Imbalance وهو ما يترتب عليه عدم التوازن النفسي والفسيولوجي للشخصواستنفاذ الطاقة.
الحقيقة السادسة
لكي يبدأ الشخص الخائف فى الخلود إلىالنوم لابد أولاً من ” إطفاء ” جهاز السمبثاوي المتوهج بداخله، وذلكلكي تتاح الفرصة لجهازالبارسمبثاوي (اللاودي) بأن يمارس عمله–أثناء فترة النوم – في إعادة البناء وإصلاح الجسم وتوفير الطاقة .
الحقيقة السابعة
إطفاء جهاز السمبثاويSympathetic Off يحاول بعض الناس فعله من خلال تناول بعض المشروبات أو المأكولات المحتوية على الماغنيسيوم أو المنجنيز أو الكالسيوم مثل الحليب، والبعض الآخر يحاول إطفائه بالعقاقير المهدئة أو المنومة بغرض المساعدة على الدخول فى النوم.
الإعجاز العلمي للآية
بناء على التفسير السابق للآية الكريمة {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ} والذى يُبين أن ما أنزله الله تعالى على جُند المسلمين في الليلة السابقة للقاء العدو في غزوة بدر من نعاس وأمن ونوم هو نعمة كبرى ومنحة عظيمة امتن الله عز وجل بها على الجُند رحمةً منه…
ولكن علمياً: لماذا كان إنزال “النعاس” نعمة كبرى ؟
بناءً على الحقائق العلمية السالف ذكرها، فإنه بسبب صعوبة الموقف وهوله ليلة المعركة لن ينام الجُند من تلقاء أنفسهم أبداً، لأنه من المعروف أن الخوف والقلق الشديدين يمنعان من الدخول في النوم، وذلك بسبب غلبة الجهاز السمبثاوي الخاص بالخوف على الجهاز الباراسمبثاوي…لأن القاعدة العلمية أن أحد الجهازين فقط ينبغي أن ينشط، ولا يجوز أن يعملا معاً في نفس التوقيتمع إعطاء الأولوية للجهازالسمبثاوي (الودي)…
ومع عدم توفر ما يُسمى في عصرنا الحالي بالمنومات أو المهدئات، سيكون إنزال النعاس نعمة كبرى ومنة عظيمة من الله على جُند المسلمين، لأنها ببساطة هى النعمة التىستُطفىء جذوة الجهاز السمبثاوي المشتعلة بسبب القلق والخوف المسيطر على الجُند في تلك الليلة، وبالتالي يتمكن الدماغ من الدخول في النوم، دون أى منومات أو مهدئات، رحمةً من ربك بهم، وبناءً عليه فإن “نعمة النعاس” سوف تحقق للجُند فائدتين علميتين عظيمتين هما :
أولاً : استعادة التوازن النفسي
فبما أن النعاس يصاحبه أيضاً الشعور بالأمان وطمأنينة النفس، فإن هذا الشعور سوف يعادل ويوازن الشعور الذى سبقه من الخوف والقلق الشديدين، وبالتالي تحقيق التوازن النفسي الداخلي وهو ما يمنع أو يقلل شعور الجُند بــ ” الإجهاد” صبيحة لقاء العدو، ولعل هذا التوازن النفسي كان أكثر وضوحاً فى معركة أحد فى قوله تعالى {ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا} [آل عمران: 154].
ثانياً : استعادة التوازن العصبي الذاتي
إذ لم ينم الجُند فى تلك الليلة واستمر الخوف والقلق حتى صبيحة لقاء العدو لسوف يتعرض كل الجُند إلى حالة من الشعور بــ ” الإجهاد و المشقة” stress بسبب العمل الزائد والطويل للجهاز السمبثاوي المستنفذ للطاقة Sympathetic Overactivity على حساب الباراسمبثاوي الموفر للطاقة وهو ما سيؤدى إلى اختلال التوازن بين الجهازين العصبيينAutonomic Imbalance وهذا الإجهاد قد يسبب إلحاق الهزيمة بجُند المسلمين…
فجاء إنزال النعاس من الله عز وجل لينقطع به نشاط السمبثاوي المُجهد للجسم وموارده، وليبدأ به عمل الباراسمبثاوي الباني لما هدمه السمبثاوي ، وهو ما يحقق التوازن بين الجهازين العصبيين Autonomic Balance، وبالتالي يسترد الجُند عافيتهم ويستعيدوا نشاطهم وقوتهم صبيحة المعركة … وهو ما يمكنهم من سحق الأعداء وكسب المعركة.
الخلاصة
كان وراء إنزال النعاس على جُند المسلمين “سر علمي” كبير … فالخوف والقلق يشعلان الجهاز العصبي السمبثاوي في الجسم، والذى له تأثير مستنفذ للطاقة والنشاط … وعلى العكس فإن النعاس يسمح للجهاز الباراسمبثاوي بعمله فىتوفير مخازن الطاقة وإعادة بناء ما تم هدمه بالجهاز السمبثاوي، وبالتالي استعادة النشاط والطاقة واستعادة التوازن النفسي والعصبي، فما أنفعه من توازن… وما أعظمها من نعمة …وصدق الله إذ قال {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ}[الذاريات:21].
________________________________________
* جامعة الأسكندرية – كلية الطب. أخصائي المخ والأعصاب والطب النفسي. ومؤلف كتاب النفس والكرب.
عناوين فرعية