ع. د. محمد فرشوخ
الكلمة الأخيرة في العدد الخامس والخمسون
عاد الحكيم من سفر، بعد أن طال الشوق المتبادل بينه وبين طلابه، وما أن أُعلِن عن موعد اللقاء حتى تداعى الأحبة وتهاتفوا، فامتلأت القاعة وكثر الذين لم يجدوا مقاعد لهم فاستندوا إلى الجدران وافترشوا الزوايا، عدا عن المسافرين والمهاجرين الذين تناقلوا الرابط الذي سينقل لهم وقائع الجلسة بثاً مباشراً.
دخل المربي فوقف الحضور له إجلالاً رغم نهيه عن أن يقف له أحد، بينما كان عدد من أصحاب الصوت الشجي، ينشدون مديحاً محبباً مطلعه “بدر من طيبة تجلّى” ولازمته “الله جليل”.
جلس الجميع وأطرق المربي متفكراً أو ذاكراً حتى ختم المنشدون، فاستفتح وسلّم على الجمع ثم قال: “كان مجلس الشيخ عبد الغني النابلسي رحمه الله يبدأ بالإنشاد وكان للمنشدين منصة خاصة في جانب المسجد، حتى إذا هدأت النفوس وذكرت القلوب ونزلت السكينة ينطلق الشيخ في وعظه وإرشاده”. ثم دخل الحكيم في الموضوع، فقال:
دخلنا عصراً جديداً غريباً كان مشايخنا رحمهم الله يخبروننا عن قدومه ويحذروننا من الاستهانة بخطره، وعن الوقوع في شراكه، ويوجهوننا عن طرق النجاة والخروج منه بسلام.
كنا نظنه بعيداً وإذ به يطرق أبوابنا بأسرع مما توقعنا. اجتمعت فيه فتن كثيرة لا ينجو منها إلا الموفقون، والهلكى من أثرها كثيرون.
أول فتنة بدأت كانت تطبيقاً عنيفاً سيئاً ومتعمداً للشرع الحنيف، بدأه متشددون وشجع عليه الغرب كله وقدم له التسهيلات وغطاه بالدعايات والمنشورات والإعلانات، جذبت شعاراته البراقة شباباً يافعاً متحمساً من كل الأقطار، ظنوا أنهم الرعيل المنقذ والشرارة الأولى لظهور الإسلام من جديد، وكانت نتائجه مدمرة لمدن إسلامية كانت آمنة، وهجّر على أيديهم أو بسببهم ملايين المسلمين، وأعطت الرأي العام العالمي أسوأ فكرة عن الإسلام وقرنته بالإرهاب، ثم تمت التضحية بالشباب الذين غُرِّر بهم، حيث تمت تصفية الآلاف منهم بمجازر تقشعر منها الأبدان وصاروا يصيدونهم من الطائرات كصيد الغزلان.
ثاني فتنة أطلقت واستناداً إلى المآسي والويلات التي جرّتها الفتنة الأولى كانت التفلّت من الدين بأسماء لمّاعة مثل “حرية الاعتقاد وكسر الأغلال” والاستجابة لرغبات النفس وإرضاء شهواتها. فظهرت الدعوات للمثلية وللأم العزباء ولاستعارة الأرحام ولاختيار النطف من بنوكها وصارت السخرية من الآباء أضحوكة وإهمال الوالدين في كبرهما عادة ووجدوا لزنا الأزواج تبريراً، وانفرط عقد عائلات كثيرة وصارت مسألة الشرف تقليداً بائداً.
إلى أن استكملت هذه الفتنة بضرورة عصرنة الدين وإعادة النظر بأصوله وفروعه، إذ لا يعقل (بنظر أسيادهم المستشرقين) الاستمرار بتطبيق شرع لم يتطور منذ 1400 سنة، وحمل لواءها عرب ليت أمهاتهم لم تلدهم.
ثم جاءت الفتنة الثالثة، وهي تشجيع المسلمين على الهجرة إلى اصقاع العالم “المتحضر” نظراً لحاجة هذا العالم إلى عنصر الشباب واليد العاملة والأدمغة الذكية الواعدة. ثم صارت الهجرة قسرية بالعنف والإرهاب حتى خلت مدن المسلمين من سكانها وتخلفت وافتقرت وصار عدد من أحيائها قاعاً صفصفاً، فعاث الفاسدون فيها عبثاً وسلباً وقتلاً واغتصاباً. حتى ان فكرة التغيير الديمغرافي لهذه المدن صارت فكرة رائجة، فجرى ويجري إحلال أقوام رعاع، جلبوا من عدة أصقاع، مكان السكان الأصليين.
ثم جاءت الفتنة الرابعة وهي فتنة الإفقار المتعمد، فما من بلد إلا ويعاني من العجز المالي وضعف في الدخل القومي والمديونية العالية. إلى أن تحين فرصة الانقضاض على ثرواته وعلى سيادته، بحيث يتم إملاء الشروط والتحكم بالرقاب.
ثم أتت الفتنة الخامسة وهي نشر الوباء، قيل إنه كان يستهدف الشعوب الفقيرة المغلوبة على أمرها لكن زمامه أفلت قبل ان تنجز أبحاث الوقاية منه، فأصاب الجناة والضحايا على السواء. وكان من أبرز نتائج هذه الفتنة على المستوى الديني والاجتماعي التباعد وتفريق الجماهير وإقفال المساجد وتقييد صلوات الجماعة ووقف مجالس الوعظ والإرشاد. وصار التجمع للتظاهر صعباً والمطالبة بالحقوق مستحيلة. بينما فتحت المقاهي والملاهي واستؤنفت المباريات الرياضية وحشدت الجماهير بلا قيود.
لن أكثر من سرد المزيد من تفاصيل ما يعدّه لنا “المتحضرون”، واكتفي بإضافة عنوانين هامّين، أحدهما تقليص عدد سكان الأرض وجعلها جنة للأغنياء تسود على قلة من العبيد وذلك اعتباراً من العام 2030، والثاني هو إعداد الشرق الأوسط وبلاد شمال أفريقيا، لاستقبال الشعوب الأوروبية النازحة من بلادها بسبب ظاهرة الاحتباس الحراري، ودخول أوروبا في العصر الجليدي، وجلّ سكان هذه المناطق عرب مسلمون، يحتار الغرب في طرق الإقلال من أعدادهم وطرق التخلص منهم، فلا يستغربن أحد بعد اليوم ظاهرة انحلال هذه الدول وهلهلة الأنظمة الحاكمة وزعزعة الجيوش فيها.
أردف الحكيم قائلاً: ربما أكثرت عليكم نوعاً ما، لكني لا أبالغ وما سبق ذكره ليس من كلامي ولا من أفكاري، إنها من تصريحات الغرب وتسريباته وأخباره وأبحاثه ونقاشاته، وقد ظهرت صحة أكثرها ونرجو ألا يتحقق ما خفي منها، لكن (سوء الظن من حسن الفطن) كما قال سيدنا عليّ رضي الله عنه.
هل نقف مكتوفي الأيدي كالغنم بين يدي الجزار؟ او نتغافل عما يجري ونكذبه ونستخف به ونستسخفه كالنعامة تدفن رأسها في الرمل ظناً منها أن الصياد لن يراها؟
بالطبع لا هذه ولا تلك، فالمبدأ الأول هو ألا نيأس ولا نفقد الأمل، فتاريخنا كله صمود أمام مؤامرات وغزوات باءت بالفشل لأنها قوبلت بالإرادة الصلبة والشجاعة والدفاع عن الحق والعدل، ومن لا يجرؤ ويُقدِم لا ينتصر ولا يجني. ومن يتخاذل مصيره إلى الذل ثم الزوال.
والمبدأ الثاني أن الذي يظن أن شياطين الأرض قد أطلقت أيديهم ليعيثوا فساداً، فقد غرق في الوهم ونسي أن الأرض أرض الله وأن الخلق خلق الله وان الله تعالى يحب عباده ولا يرضى لهم الظلم ولا الاستعباد ولا الفناء. وسيذهب ما ينفق الظالمون سدىً، فقد قال عزّ وجلّ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (٣٦)﴾ [الأنفال].
المسألة مسألة وعي والتزام، أن نعيَ ملابسات ما يجري ونتحرّى الحقائق وأن نحرّك عقولنا فنفقه ونلتف على حيل الشياطين لا أن نستسلم لتدابيرهم، فنعمل على تحقيق التواصل ولو عن بعد في مرحلة أولى، فلا تتوقف اللقاءات ولا مجالس العلم ولا الندوات، حتى أن بعض أهل الفقه ممن نور الله قلوبهم أفتوا بصلاة التراويح عن بعد وكذلك في صلوات التهجد وقيام الليل، في وقت عجز آخرون عن الالتفاف وما فقهوا فتاوى الضرورات في الظروف القاهرة، فقعدوا عن الاجتهاد وصاروا كالمستسلمين.
وأما الالتزام فمعناه عدم المس بمسلمات هذا الدين والتمسك بالعقيدة وبالأحكام فلا تغيير في الفرائض ولا في النوافل ولا حتى في الآداب. ولا يحيد أحد عن شرع الله قيد أنملة، فلا بديلَ عن الزواج ولا حَمْلَ خارجه، ولا سبيل إلى التبني، ولا تعديل في أحكام الإمامة ولا تعديل لكلام الله تعالى ولا تبديل ولا إنقاص ولا زيادة، ولا سبيل إلى إعادة النظر بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد انتهى تحقيق علم الحديث وتدقيقه منذ قرون، وكلّ طاريءٍ عليه ومنتقدٍ له ومغيّرٍ في أصوله إنما هو فتّان مغرور مريض، أو منافق أجير.
قد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفتن الآتية، وأمرنا أن نبادر بالأعمال الصالحة لكي نثبت فقال: «بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا، أو يمسي مؤمنا ويصبح كافرا، يبيع دينه بعرض من الدنيا».
لا تهيجكم الشعارات ولا تتحولوا إلى جماعات يقاتل بعضكم بعضاً، فالفقر عام والجوع شائع، ولن يفرقا بين المسلم وغير المسلم فكلنا مواطنون وكلنا مستهدفون، ويكفي وطننا ما جنى من قتل ودمار وفساد وخراب، وها قد آن أوان الوعي والتكاتف والعمل الصالح والجهد المثمر والكلمة الطيبة وجبر الخواطر وإطعام الجائع وإسعاف المريض مهما كان دينه ومذهبه وعقيدته أو بيئته. وسيدافع الله تعالى عن الذين آمنوا، وعن الفقراء والمظلومين مسلمين وغير مسلمين، ولن ينفع الكافرين مكرهم، قال تعالى: ﴿وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (٣٠)﴾ [الأنفال].
ووعد عليه الصلاة والسلام بالأجر العظيم لمن يصبر ويصمد ويلتزم فقال: «المتمسك بسنتي عند فساد أمتي له أجر شهيد» .
وذكر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم ان أجر الصابر في تلك الأيام كأجر خمسين من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحا مطاعا، وهوى متبعا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك ودع العوام، فإن من ورائكم أياما الصبر فيهن مثل القبض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عملكم»، قيل: يا رسول الله أجر خمسين رجلا منا أو منهم. قال: «بل أجر خمسين رجلا منكم».
ختم الحكيم مقالته بقوله: أيها الأحبة، ربنا حكيم عليم، لا يضل ربنا ولا ينسى، أروا الله استقامةً وثباتاً ومحبةً وإيثاراً وسلاماً وتعقلاً، واجتنبوا العنف والعصبية والجاهلية والطائفية والمذهبية، والعلي القدير يتربص بالظالمين أعداء الانسانية، قال تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (١٤)﴾ [الفجر].ومن استمسك وثبت نودي كما نودي سيدنا موسى عليه السلام: ﴿قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (٦٨)﴾ [طه]. وقال لسيدنا محمد : ﴿فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٣) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (٤٤)﴾ [الزخرف]. إنكم ترجون من الله ما لا يرجون، والأمر أقرب مما تتوقعون، ومن يعش يرَ. فالعاقبة للمتقين. وصلى الله على سيدنا محمد والحمد لله رب العالمين.
[2] «المعجم الأوسط» (5/ 315) عن أبي هريرة
[3] «سنن الترمذي ت شاكر» (5/ 257) عن أبي ثعلبة الخشني.