د.رضا عبد الحكيم رضوان*
طبقًا لأحدث التقارير العلمية المتخصصة في علم الأنفاس الكريهة[1]The Science Of Bad Breath) إن النَّفَسَ الكريه – في حقيقته – ظاهرة فموية في قسمها الأعظم. وتشير الأبحاث إلى أن الكثرة الأعم من حالات النفس الكريه تبدأ من الفم. وتنشأ هذه الرائحة الكريهة – كما في الكثير من الحالات – عن البكتيريا الفموية التي تتغذى بجمعية صغيرة(Pool) من التستيل الأنفي الخلفي (Postnasal Drip) الذي يتراكم عادة على القسم الخلفي من اللسان. وتخلف البكتيريا وراءها مجموعة من المركبات العفنة. وتسمى ظاهرة النفس الكريه أيضًا البخر Halitosis))[2].
مما يذكر أنه في شهر يونيو 2001 شارك 350 عالمًا في المؤتمر الدولي التخصصي الذي عقدته الجمعية العالمية لأبحاث رائحة النفس (ISBOR) في طوكيو. وقد تنوعت الدراسات والبحوث التي رصدت تلك الظاهرة. وانتهى المنتدى إلى عرض مستجدات علمية حول هذا الموضوع؛ إن حالات البخر ـ كما يقرر الباحثون ـ منشؤها جوف الفم، وكما هي الروائح المنبعثة من الأدغال البكتيرية الرطبة في الجسم مثل: (الإبطين والأقدام المنتعلة). فإن النـَفَس الكريه ينجم في المقام الأول عن الاستقلاب (الأبيض) الميكروبي.
تطييب الأنفاس في الإسلام:
نص رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ منذ أربعة عشر قرنًا من الزمان على تدبير الوقاية من النفس الكريه، من خلال إلزام المسلم باتباع آليات السواك، والتي يتبناها علماء العصر كتدبير أساسي ووسيلة ناجحة في تطييب النفس[3]. قال المصطفى ـ صلى الله عليه وسلم: “إن لله حقٌّا على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام، وإن كان له طيب أن يمس منه”[4]، وقوله صلى الله عليه وسلم: “من عرض عليه طيب، فلا يرده، فإنه خفيف المحمل طيب الرائحة”[5]. وفي صحيح البخاري أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان لا يردّ الطيب[6]. ولنظافة الفم وصحته خصّ المصطفى ـ صلى الله عليه وسلم ـ السواك بالاستعمال من أجل تطييب النفس. ففي صحيح البخاري تعليقًا عنه ـ صلى الله عليه وسلم: “السواك مطهرة للفم مرضاة للرب”[7]. وفي الصحيحين عنه ـ صلى الله عليه وسلم: “لولا أن أشق على أمّتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة”[8]. وفي صحيح مسلم أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان إذا دخل بيته بدأ بالسواك[9].
وفي السواك ـ عند الفقهاء ـ عدة منافع، فهو: يطيّب الفم، ويشد اللثة، ويقطع البلغم، ويجلو البصر، ويذهب بالحفر، ويصح المعدة، ويصفي الصوت، ويعين على هضم الطعام، ويسهل مجاري الكلام، وأجود ما استعمل السواك مبلولاً بماء الورد، ومن أنفعه أصول الجوز[10].
البكتيريا في الفم:
بدأ الباحثون حديثًا بدراسة البَخَر كيفًا وكَمًّا، مما أدى إلى تبصرات جديدة فيما يخص أسباب هذه الحالة والمعالجات الممكنة.
يستوطن الفم مئات الأنواع من البكتيريا التي تتفاوت في خياراتها الغذائية، وتفضّل هذه الكائنات الحية الدقيقة الأغذية البروتينية، وتتضمن المركبات الكيميائية الناجمة عن هضم هذه البروتينات بعض المواد النتنة حقٌّا. كما أن البكتيريا الفموية التي هي عادة من صنف اللاهوائيات ـ تنتج في أي وقت سلفسيد الهيدروجين الذي يتميز برائحة تشبه رائحة البيض الفاسد، كما أنها تنتج مثيل المركبتان (Methyl Merecaptan) والسكاتول (Skatole) الموجودين في البراز. وكذلك الإندول ((Indole الذي يستعمل بكميات زهيدة في صناعة العطور، إلا أنه ينشر رائحة عفنة عندما يوجد بكميات كبيرة. ومن المواد التي تنتجها هذه البكتريا أيضًا الكادافرين (Cadaverine) الذي يتكون في الجثث المتفسخة، والبوترسين (Putrescine) الذي يتشكل في اللحوم الفاسدة، وحمض الإيزوفالريك Isovaleric acid)) الذي ينشر رائحة تشبه رائحة الأقدام المتعرقة. لذلك لا عجب أن يكون نفس الإنسان أحيانًا ذا رائحة بالغة الكراهة[11].
ويُعَدّ القسم الخلفي للسان ـ وليس الأسنان واللثة ـ المصدر الرئيس للنَّفَس الكريه، إذ لا يقوم اللعاب بتنظيف هذه الناحية جيدًا، كما أنها تحتوي على العديد من الانغلافات الدقيقة التي تستطيع البكتيريا الاختباء فيها. وتجد البكتيريا في هذا المكان مصادر غير متوقعة للغذاء تتمثل في التستيل الأنفي الخلفي Postnasal drip)). وتشمل المصادر الفموية الأخرى للنَّفَس الكريه سوء صحة الفم (ولا سيما إذا ترك وراءه جزيئات بروتينية بين الأسنان) والتهاب اللثة وسوء عمل الأسنان والبدلات السنية القذرة والخراجات. ولما كان الجريان المستمر للُّعاب يجرف البكتيريا ومنتجاتها الكيميائية الكريهة الرائحة، فإن أي شيء يعزز جفاف الفم (مثل التنفس الفموي والصيام وكثرة التكلم والشدات النفسية والعديد من الأدوية يمكنه أن يزيد الحالة سوءًا).
يقرر الباحثون أن القضاء على الأحياء الميكروبية في الفم هو العلاج للبخر، ومع ذلك فإن هذه البكتريا تؤدي دورًا وقائيٌّا، ففي الأحوال العادية تؤدي ألسنتنا كميات قليلة من فطور المبيضات (Candida Fungus) التي تبقى مكبوحة بوجود البكتيريا، فإذا أبيدت هذه البكتيريا بواسطة المضادات الحيوية (الصادّات) تكاثرت تلك الفطور وانتشرت بسرعة فائقة. ولما كانت الآفات الفطرية أشد وخامة ((Severe والسيطرة عليها أكثر صعوبة من البخر ـ فإن الخطة المثلى هي الإبقاء على البكتيريا ولكن تحت السيطرة.
تشخيص البخر:
إن المصدر الأكثر شيوعًا للنفس الكريه بعد الفم هو الأنف والمجاري (المسالك) الأنفية، ففي 5 ـ 10% من الحالات تأتي الرائحة الكريهة بشكل رئيس من الأنف وليس من الفم، وقد تنجم رائحة الأنف الكريهة عن التهاب الجيوب أو عن الحالات التي تعوق تدفق المخاط أو تمنعه. وقد تكون اللوزتان المتقيحتان السبب في 3% من حالات البخر، وهناك المئات من الأمراض الأخرى التي تسبب بمجملها أقل من 1% من حالات البخر التي تشاهد عادة. ومن هذه الحالات النادرة يذكر الباحثون تلك التي يطلق عليها اسم متلازمة رائحة السمك (Fish odor syndrome) يشعر المصابون بهذه المتلازمة أن لعابهم وعرقهم تنبعث منه أحيانًا رائحة تشبه رائحة السمك، مع ]أنّ[ الآخرين قد يصعب عليهم الإحساس بمثل هذه الرائحة، ولذا قد يعمد الطبيب غير المطّلع على هذه الحالة إلى إحالة هؤلاء المرضى إلى المعالجة النفسية. وفي الواقع أن متلازمة رائحة السمك، أو بيلة ثلاثي ميثيل الأمين (Trimethy Ianinuria) ـ تنجم عن قصور أحد الإنزيمات الذي يفكك عادة مركب ثلاثي ميثيل الأمين الذي له رائحة السمك.
وعندما يتأكد وجود البخر فإن المصاب يسعى إلى التخلص منه، بالطبع لا يمكن التقليل من أهمية العناية بصحة الفم ـ أي تخليل الأسنان وتنظيفها بالفرشاة تنظيفًا منتظمًا ـ للوقاية من البخر، كما أن الكلورهكسيدين (Chlorhexidine)، وهو دواء مضاد للبكتيريا يستعمل لمعالجة التهاب اللثة ويباع بموجب وصفة طبية ـ أثبت فعاليته في مكافحة البخر، ولكنه مع الأسف يغير لون الأسنان، ويفسد حاسة الذوق ويسبب تقرحات فموية[12]. وهناك مواد طبيعية تستعمل مضغًا في جميع أنحاء العالم لتطييب النفَس، مثل: قشور الجوافة (تايلاند)، وبذور اليانسون (الشرق الأقصى)، والبقدونس (إيطاليا)، والقرنفل (العراق)، والقرفة (البرازيل)، وإن بعض الجزيئات المسؤولة عن مذاق ((Flavor هذه النباتات تمتلك خاصيات مضادة للبكتيريا، مما يعطي هذه الممارسات الشعبية مصداقية علمية. كما أن كثيرًا من الغسولات الفموية الشائعة تحوي زيوتًا عطرية، منها المنثول واليوكاليبتول وسالسيلات الميثيل[13].
يقرر الباحثون أن النفَس الكريه، ليس رائحة وحيدة، وإنما مجموعة من الروائح تختلف باختلاف الأحياء الميكروبية التي تسببها، والمكان الذي انطلقت منه ومدى فاعليتها.
قائمة بالمواد غير المرغوبة، المركبات التي تنتجها عادة البكتيريا الفموية وروائحها:
سلفيد الهيدروجين: رائحة البيض الفاسد، ميثـيل المركبتان: رائحة البراز،
الـسـكـاتـول: رائحة البراز، كــادافــرين: رائحة الجثث،
بـوتـرســين: رائحة اللحم المتفسخ، وحمض الإيزوفاليريك:رائحة الأقدام المتعرقة.
نصائح مفيدة للحفاظ على النَّفَس الطيب:
نظف القسم الخلفي من لسانك بواسطة منظف اللسان البلاستيكي[14]. احترس من أذية لسانك، واكتف بجرف طبقة المخاط، إن المران يساعد على تجنب منعكس القيء.
تناول فطورًا جيدًا، فهو ينظف الفم ويحرض سيلان اللعاب.
اتق جفاف فمك، ويمكن لمضغ العلكة بعض دقائق أن يخفف شدة النَّفَس الكريه. اشرب كمية كافية من السوائل.
استعمل غسولاً فمويٌّا، وأكثر الطرائق فاعلية هي المضمضة والغرغرة قبل النوم، لأن ذلك يمنع تجميع الأحياء الميكروية والروائح أثناء الليل.
نظف فمك بعد تناول الأطعمة والأشربة ذات الرائحة، مثل الثوم والبصل والكاري، والقهوة. تأكد من نظافة التفاريج بين أسنانك، ولا سيما بعد تناول الأطعمة والأشربة الغنية بالبروتين.
سَوِّك أسنانك وخلِّلها (أي نظف تفاريج الأسنان) بحسب تعليمات طبيب الأسنان.
استفسر من أحد أفراد عائلتك الكبار أو أحد أصدقائك المقربين عن نكهة فمك، تلك هي أوثق طريقة لتعرف إن كنت مصابًا بالبَخَر أو لا.
* للراغبين بمتابعة البحث بكامله مراجعة الموقع www.nooran.org
[1] راجع في أطروحات هذا العلم وتخصصاته: دراسة تفردت بنشرها مجلة الـ Scientific American، أعدها الباحث Mel Rosenberg أستاذ علم البكتيريا، ترجمها: زيادة درويش وآخر، مج18، ع7،8 2002م، ص 51: 54.ـ انظر إشارته المرجعية الهامة(…).
[2] الكلمة الإنجليزية مشتقة من الكلمة اللاتينية Halitus وتعني النَّفَس، والكلمة اليونانية Osis وتعني الحالة السيئة. ثمة حالة يدرسها علماء النفس فيما يسمى رهاب البخر؛ أي الخوف المبالغ فيه من الإصابة بالبخر (…).
[3] ابن قيم الجوزية (الطب النبوي) تحقيق الشحات أحمد الطحاوي، دار المنار، مكتبة فياض، في هديه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حفظ الصحة بالطيب، فصل ص 183 في ذكر شيء من الأدوية والأغذية المفردة التي جاءت على (لسانه ـ صلى الله عليه وسلم ـ مرتبة على حروف المعجم، حرف السين/ سواك/ ص209 :211).
[4] صحيح البخاري في الجمعة (880) من حديث أبي سعيد الخدري.
[5] صحيح أبي داود في الترجل (4172)، والنسائي في الزينة (5274).
[6] صحيح البخاري في اللباس (5929) من حديث أنس بن مالك.
[7] صحيح البخاري في الصوم، معَلَّقًا (الفتح 4/187)، وأحمد 6/47/ 62.
[8] صحيح البخاري في الجمعة (887)، ومسلم في الطهارة (252, 42).
[9] صحيح مسلم في الطهارة (253/43) من حديث عائشة.
[10] ابن قيم الجوزية، المرجع السابق، ص209: 210.
[11] وحديثًا بيّن (Wلوش) (من جامعة متشيكان، وهو الرئيس السابق لجمعية ISBOR) أن الفلورا الميكروبية (النبيت المجهري) Microflora التي توجد على اللسان تختلف عن الأنواع البكتيرية التي تعيش على اللويحات السنية (البلاك) Plaques وقد حصل لوش على منحة من المعهد الوطني للصحة لدراسة البخر، وهو الذي كشف عن وجود أنواع من البكتيريا غير معروفة من قبل تعيش في أفواهنا، وهو يعكف على فهرسة الفلورا الفموية الميكروبية عند الأصحاء وأولئك المصابين بالبخر.
[12] وهناك علاجات أخرى للبخر تعود إلى آلاف السنين. فتنظيف اللسان هو إحدى الطرق المتبعة في الشرق الأقصى منذ القدم للعناية بصحة الفم، ولا تزال شائعة حتى الآن، بل إنها بدأت تنتشر في البلدان الغربية. ومن التريقات المذكورة في التلمود البابلي صمغ المصطكا، Gum Mastic الذي قد يكون هو نفسه اللاذن Ladanum الذي ورد ذكره في العهد القديم، وصمغ المصطلكا هو راتين Resin يستخرج من شجيرات Lentiscus Pistacia التي لا تزال تزرع لهذه الغاية في جزيرة كيوس في البحر المتوسط، مع أن الأعلاك الصناعية الحديثة حلت محل المصطكا إلى حد كبير. ومن الجدير بالذكر أن هذا الصمغ كان يستعمل في الماضي على نطاق واسع في معالجة الجروح، وتبين الآن أن له خواص قوية مضادة للبكتيريا، وهكذا فإن مضغ الأعلاك قد يزيد من جريان اللعاب ويقتل في الوقت نفسه بعض البكتيريا المسؤولة عن النفَس الكريه.
[13] وقد وضع اتحاد أطباء الأسنان الأمريكيين مواصفات عامة فإذا توافرت في أحد المنتجات أمكن الحصول على موافقة الاتحاد على اعتباره منتجًا فعالاً ضد اللويحات السنية، ويقوم هذا الاتحاد بإعادة النظر في المواصفات العامة التي سيسمح على ضوئها للمنتجات بالحصول على موافقته على اعتبارها مطيّبة للنفس.
[14] القسم الخلفي من فرشاة الأسنان وهي الشكل المقوس والمتعرج.