أ.د. يحيى وزيري*
الظلال هى أحدى النعم التى منّ بها الله سبحانه وتعالى على عباده، والظل في اللغة نقيض الضح (بالكسر) أو هو الفيئ، أو هو بالغداة والفيئ بالعشي، ومكان ظليل ذو ظل، والظلة شيء كالصفة يستتر به من الحر والبرد.
الدلالات العلمية لآيات “الظل والظلال” فى القرآن الكريم:
تحدث القرآن الكريم عن “الظل والظلال” فى العديد من الآيات القرآنية فى سور مختلفة، وفيما يلى حصر لأهم هذه الآيات مع تصنيفها من الناحية الموضوعية، وذكر تفسير مختصر لكل آية:
أ- التنبيه الى الفرق بين الظل والحرور:
يقول سبحانه وتعالى: “وما يستوي الأعمى ولا البصير، ولا الظلمات والنور، ولا الظل ولا الحرور” (فاطر: من 19 إلى 21).
إن الآية الكريمة تؤكد وتنبه على حقيقة يلمسها جميع البشر حيث يشعرون بالفرق الكبير بين الأماكن المظللة والأماكن المعرضة مباشرة للشمس وما ينتج عن ذلك من حر شديد.
ب- وصف أسلوب حركة الظلال: * ذكر حركتى الظل اجمالاً: يقول سبحانه وتعالى: “ولله يسجد من فى السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال” (الرعد:15)، يقول الإمام القرطبى في تفسير هذه الآية الكريمة: “ظلال الخلق ساجدة لله تعالى بالغدو والآصال لأنها تبين في هذين الوقتين، وتميل من ناحية إلى ناحية، وذلك تصريف الله إياها على مايشاء، وهو كقوله تعالى: “أو لم يروا إلى ماخلق الله من شيء يتفيؤ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون” (النحل:48)، والسجود بمعنى الميل فسجود الظلال ميلها من جانب إلى جانب”.
فهذه الآية الكريمة قد نبهت الى حركتى الظل اجمالاً، حيث ركزت على وقتى الغدو والآصال لأنها تبين فى هذين الوقتين، فالحركة الأولى للظل هى حركة الانتقال من جهة الغرب الى جهة الشرق، والحركة الثانية هى حركة الظل بالامتداد والانقباض، وهاتان الحركتان متلازمتان ومتزامنتان فى نفس الوقت.
ج- الظل ليس كله واحدا: يقول الله سبحانه وتعالى: “والله جعل لكم مما خلق ظلالا وجعل لكم من الجبال أكنانا وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم، كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون” (النحل:81)، ورد فى التفسير الميسر مايلى: “والله جعل لكم ماتستظلون به من الأشجار، وجعل لكم فى الجبال من المغارات والكهوف أماكن تلجأون اليها عند الحاجة…”.
ان ذكر كلمة “ظلالا” بصيغة الجمع وليس “ظلا” بالافراد، فيه تنبيه الى أن الظل الذى نراه بأعيننا ليس كله واحدا فى التأثير، وهذا من اعجاز القرآن الكريم.
د- ذكر نماذج محددة لأنواع الظلال : من اعجاز وسبق القرآن الكريم أن يذكر نماذج واضحة ومحددة لأنواع الظل، وهو ماسوف نوضحه فيما يلى:
1- الظل النافع (ظل الرحمة): أورد القرآن الكريم العديد من نماذج الظل النافع (ظل الرحمة)، نفصلها فيما يلى:
* ظل الغمام (السحاب الأبيض): يقول سبحانه وتعالى: “وظللنا عليهم الغمام وأنزلنا عليهم المن والسلوى، كلوا من طيبات مارزقناكم وماظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون” (الأعراف:160)، أورد الامام القرطبى فى تفسيره مايلى: “.. أي جعلناه عليكم كالظُّلّة والغمام جمع غمامة، كسحابة وسحاب.
* الظل الظليل: يقول سبحانه وتعالى: “والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا، لهم فيها أزواج مطهرة وندخلهم ظلا ظليلا” (النساء: 57)، ولقد أورد الامام ابن كثير فى تفسيره مايلى: “.. وقوله: { وَنُدْخِلُهُمْ ظِـلاًّ ظَلِيلاً } أي: ظلاً عميقاً كثيراً غزيراً طيباً أنيقاً، قال ابن جرير: حدثنا ابن بشار، حدثنا عبد الرحمن، وحدثنا ابن المثنى، حدثنا ابن جعفر، قالا: حدثنا شعبة، قال: سمعت أبا الضحاك يحدث عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها: شجرة الخلد”.
* ذكر الظل الممدود مقترنا بالماء المسكوب: يقول سبحانه وتعالى: “وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين في سدر مخضود وطلح منضود وظل ممدود وماء مسكوب” (الواقعة:27-31)، ورد فى التفسير الميسر: “وأصحاب اليمين ما أعظم مكانتهم وجزاءهم، هم فى سدر لا شوك فيه وموز متراكب بعضه على بعض، وظل دائم لايزول وماء جار لاينقطع..”.
ان الآيات الكريمة تعطينا نموذجًا هامًا للظل النافع وهو الظل الدائم، مقترنًا بالماء الجار المسكوب والذى يساهم مع الظل فى تخفيف درجة الحرارة.
2- الظل الضار (ظل العذاب): أورد القرآن الكريم العديد من نماذج الظل الضار (ظل العذابة)، نفصلها فيما يلى:
* ظل الدخان الأسود: يقول سبحانه وتعالى: “وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ، لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ” (الواقعة:43، 44)، ورد فى كتاب “جامع البيان في تفسير القران” للامام الطبري: “…فعن ابن عباس ومنصور عن مجاهد “وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ”، قالا: دخان، وحدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة { وَظِلٍّ مِنْ يَحْمومٍ } كنا نحدَّث أنها ظلّ الدخان، وقال: قال ابن زيد، في قوله: { وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ } قال: ظلّ الدخان دخان جهَنم، وقوله:”لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ”، يقول تعالى ذكره: ليس ذلك الظلّ ببارد، كبرد ظلال سائر الأشياء، ولكنه حارّ، لأنه دخان من سعير جهنم، وليس بكريم لأنهم مؤلم من استظلّ به.
شمولية ودقة الوصف القرآنى للظل والظلال:
من جوانب اعجاز القرآن الكريم أن يتحدث عن الظل والظلال بوصفها أحد الظواهر الطبيعية، التى ترتبط أساسًا بحركة الشمس الظاهرية، بأسلوب يتسم بالشمولية وبدقة الوصف الذى لا يتنافى مع الحقائق العلمية التى تم التأكد منها فى العصر الحديث، حيث أشارت الآيات القرآنية الى ما يلى:
أ- التنبيه الى الفرق بين الظل والحرور.
ب- الوصف الدقيق لأسلوب حركة الظلال اجمالا وتفصيلا.
ج- التنبيه الى أن الظل ليس كله واحدا.
د- ذكر نماذج محددة لكل من نوعى الظل النافع (ظل الرحمة) والظل الضار (ظل العذاب).
الاعجاز فى ذكر نماذج محددة للظل النافع والظل الضار:
نظرًا لأهمية الظلال بالنسبة لتوفير جو مريح بالنسبة للبشر خاصة في المناطق الحارة، فلقد نبهت العديد من الآيات إلى العديد من الأمثلة والنماذج لما يمكن ان نسميه “بالظل النافع”، ومنها الظلال الناتجة عن الغمام (السحب البيضاء) كما في قوله تعالى: “وظللنا عليهم الغمام” (الأعراف: من الآية 160).
وفى بعض الآيات القرآنية ورد ذكر الظل الممدود مقرونًا بالماء المسكوب، حيث يقول سبحانه وتعالى: “وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين في سدر مخضود وطلح منضود وظل ممدود وماء مسكوب” (الواقعة: من27 الى 31)، ان استخدام الماء لترطيب الهواء بالإضافة إلى عملية التظليل، يؤدى إلى زيادة خفض درجة حرارة الهواء مما يؤدي إلى زيادة الشعور بالراحة الحرارية خاصة في المناطق الحارة الجافة مثل منطقة الجزيرة العربية، والتي كانت مهبطًا للوحي القرآني.
ذكر الظل الظليل:
أوضحت احدى الآيات القرآنية أن “الظل الظليل” هو إحدى المتع التي أعدها الله سبحانه وتعالى لأهل الجنة، مصداقا لقوله تعالى: “والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا، لهم فيها أزواج مطهرة وندخلهم ظلا ظليلا” (النساء: 57)، وهو الظل المتراكب فوق بعضه بعضًا ومثاله فى الطبيعة ظل ورق الأشجار الذى يظلل بعضه بعضًا. لقد أوضحت القياسات العلمية الحديثة أن أفضل شيء لتقليل درجة الحرارة داخل الفراغات المبنية، يكون عن طريق تظليل الأسقف العلوية للمبانى، بمعنى وجود سقف يظلل السقف الأصلي للمبنى، وهو أحد نماذج الظل الظليل، حيث يعمل السقف الخارجي (العلوي) على تظليل سقف المبنى الأصلي من الاشعاع الشمسي المباشر، وخفض الانتقال الحراري للفراغات (المعمارية).
ذكر ظل الدخان الأسود: من أمثلة الظل الضار ما ورد فى قول الله سبحانه وتعالى: ”وظل من يحموم، لا بارد ولا كريم“ (الواقعة: 43،44). ان ذكر الظل الضار يعتبر سبقًا قرآنيًا، لأن اليحموم عبارة عن دخان أسود حار سيئ المنظر، ومثاله مايعرف الآن باسم ”الضبخان“ smog (السحابة السوداء)، ويتكون من الضباب والدخان، ولم تعرف ظاهرة الضبخان الا بعد الثورة الصناعية وانتشار الملوثات من أدخنة وأبخرة ساخنة متصاعدة، فى وجود ظروف مناخية معينة، تؤدي الى تكون سحب سوداء من الضبخان تحجب الشمس، ولكنها تضر بالصحة وتزيد من ارتفاع درجات الحرارة والشعور بجو خانق، ومن جانب آخر فانها سيئة المنظر.
الخلاصة ونتائج البحث:
أورد البحث وجوه الاعجاز العلمى في ذكر القرآن لنماذج محددة لكل من الظل النافع والظل الضار، وهو ما يعد اعجازًا وسبقًا قرآنيًا بكل المقاييس العلمية التى تم التوصل اليها حديثًا، حيث أن كل البشر وقت نزول القرآن الكريم منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا لم يكونوا يعرفون الا الظل النافع، ولم يتخيل أحد منهم أى وجود للظل الضار أو ظل العذاب الا بعد أن نبهت اليه بعض الآيات القرآنية، وأثبته العلم الحديث متمثلاً فيما يعرف باسم “الضبخان” أو “السحابة السوداء”. ان حديث القرآن الكريم عن وصف أسلوب حركة الظلال وأنواع الظل المختلفة، بحيث يعطي رؤية شاملة ومتكاملة لهذه الظاهرة الطبيعية، دونما أي تعارض مع الحقائق العلمية الحديثة، يعتبر شاهدًا للقرآن الكريم بأنه كلام الله الذي أنزله بعلمه على المصطفى صلى الله عليه وسلم، ليهدي به البشر في كل زمان ومكان وليريهم طريق الحق الواضح المبين.
_________________________
* عضو الهيئة العالمية للاعجاز العلمى فى القرآن والسنة. وللراغبين بمتابعة البحث بكامله مراجعة الموقع www.quran-m.com