{ وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ }
أ.د. محمد علي عبد المقصود(1)
مقدمة: (…)
صورة للأرض من الفضاء الخارجي
المفردات اللغوية:
المهد: الفراش والسرير والأرض السهلة المستوية، والمهاد: الفراش والأرض المنخفضة المستوية، وتمهد أي تسهل وتوطأ.
عجز الإنسان أمام حجم الأرض:
حجم الأرض بالنسبة لحجم الإنسان كبير جداً، فقطرها يقارب13000 كيلو متراً، ومحيطها ( عند خط الاستواء) يقارب 38000 كم، فإذا صغرنا الأرض لتصير كحجم الإنسان، وصغرنا الإنسان بنفس القدر… ولكي نفهم هذا المعنى تخيل أنك أنت الأرض، فكيف يكون الإنسان بالنسبة لك إن حجمه يكون 12. 4 ميللميكرون، أي أنه لا يرى حتى بأعظم المجاهر، إن هذه المقارنة الحجمية تكشف لنا عن ضعف الإنسان وعجزه عن هذا العمل المعجز، وهو فرش الأرض، وتبين لنا معنى عظيماً، فقوله تعالى: { وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ } [الذاريات: 48]، فالهاء تعود على الواحد القاهر، ولا يقدر على ذلك إلا خالقها، وصدق الله العظيم إذ يقول: { وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً } [النساء: 28]… فإذا كان فرش الأرض قد أعجزنا، فكيف بالسماوات ومن بناها. إن (الهاء) هنا في ( فرشناها) تشعرنا بالعجز، وتحول بيننا وبين ما فوق ذلك من آيات، فنغض البصر ونمشي عليها بحياء، وصدق الله العظيم إذ يقول: { ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ } [الملك: 4]، فالهاء تشعرنا نحن الجيولوجيين بإعجاز مكاني.
زمان الإنسان وزمان الأرض:
إن الله جلت قدرته جعل لكل مخلوق عمراً يتناسب مع ما خلقه له، فمن المخلوقات كجسيمات الذرة لا يتعدى عمرها لحظات، ومن الحشرات ما يعيش شهراً، ومن الحيوانات ما يعيش أعواماً، ومن الزواحف ما يصل عمره إلى عدة مئات من السنين… فدورة الحياة تختلف باختلاف المخلوق، أما الإنسان فمتوسط عمره بضع عشرات من السنين، وفي الحديث النبوي الشريف: ( أعمار أمتي ما بين الستين والسبعين )، والأرض مخلوق بلغ من العمر حتى يومنا هذا ( 4500) مليون سنة، ولها نهاية هي القيام: {… وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ… } [الزخرف: 85].
وكما أن الإنسان لا يعرف متى ينتهي أجله، فإن الجيولوجيين لا يعرفون متى ينتهي عمر الأرض، إلا أن العجز الزماني يتضح لنا جلياً حين نعلم أن فرش الأرض – وكما سيتبين لنا بعد قليل – قد استغرق، أو قل إنه يلزمه ليصبح على ما هو عليه من إبداع، كل هذا العمر من السنين (4500 مليون سنة)… فكيف للإنسان أن يفرش الأرض، ونعود ثانية لهذه الآية في {فَرَشْنَاهَا } فلا يقدر على فرشها إلا الحي الذي لا يموت. فالهاء تشعرنا نحن الجيولوجيين أيضاً بإعجاز زماني.. وإذا عجزنا عن زمان الأرض فكيف بالسماوات…
وزن الإنسان ووزن الأرض:
إن متوسط وزن الإنسان معلوم لنا – وهو حوالي 70 كجم. ولننظر الآن تدريجياً إلى الأوزان التي حولنا، فكيف يوزن البيت كله، إنه أكبر بالتأكيد، فكيف بوزن المدينة التي نعيش فيها، فكيف بوزن قارة مثل إفريقيا، وكيف بوزن خزان مياه صغير… هل تقدر على حمله ؟ فما هو وزن البحر الأبيض المتوسط مثلاً ؟.. وكيف بوزن المحيط الأطلسي ؟.. بل كيف بوزن المياه على الأرض والقارات.. ؟؟ المعروف عندنا أنه كلما زادت الكتلة كلما زاد الوزن حتى تصل إلى الأرض وما عليها، إن وزنها (6 × 10 24) طن، وهو رقم من الصعب أن نجد له منطوقاً، وقد استطاع الانسان أن يعرف وزن الأرض الهائلة – والتي يعيش عليها – فلا يكاد يرى لصغر حجمه، إنه دائماً يعلم ولا يقدر فيخر ساجداً لله: { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ } [فاطر: 28].
هذه الأرض الهائلة الوزن معلقة في الفضاء من غير عمد تسبح في كون الله بقدر معلوم، فمن ذا الذي رفعها وأبقاها من غير عمد ؟..
من هنا وقبل أن نرى معجزة ( فرش) الأرض نتوقف قليلاً لنعلم كم تعجزنا الأحجام وكم يعجزنا الزمان وكم تعجزنا الأوزان أمام قدرة الحنان المنان في فرش الأرض ورفع السماء: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً… } [البقرة: 22].(…)
فرش الأرض – من الناحية الجيولوجية:
وصف العليم الخبير الأرض بأنها مهد: { فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ }… ولقد بدا الإعداد لفرش الأرض على ما نراه عليها الآن بتكوين قشرتها، فعمر الأرض (4500) مليون سنة، لكن أقدم الصخور عمراً على الأرض يبلغ (3. 800) مليون سنة، وما بين الزمنين كانت الأرض كتلة من سوائل وغازات لا شكل لها، مرتفعة الحرارة، واستغرق تكوين شكلها – نتيجة لدورانها حول نفسها واستقرار هذا الشكل – بتكوين قشرة خارجية صلبة زمناً كبيراً، وهنا نرى إعجازاً رائعاً في كتاب الله، إذ يقول الخالق العليم: { وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا } [النازعات: 30]… والإعجاز في قوله: { بعد ذلك }، فلم يتم دحي الأرض في أول خلقها بل استغرق ذلك زمناً، فقال العليم الخبير: { وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا } [النازعات: 30] وسواء كان الدحي متأخراً عن خلق السماوات أو خلق الأرض، فإنه جاء متأخراً، لقوله { بعد ذلك } ولم يكن متزاملاً مع ما قبله… فالجيولوجيين يعلمون أن ( بعد ذلك) قدرها ( 700) مليون سنة، فتبارك الله أحسن الخالقين.
تكوّن الكتلة القارية الأولى:
تكونت القشرة الصلبة الأولى وكانت رقيقة بالنسبة لحجم الأرض، ونظراً للحركة الدائمة للأرض بمكوناتها السائلة في الداخل، فإن هذه القشرة تشرخت وانفصلت إلى عدد كبير من الأجزاء… ونتيجة للحركة الدائمة، فإن هذه الأجزاء تصادمت مع بعضها في مواقع وتباعدت عن بعضها في مواقع أخرى، مما تسبب في خروج سوائل الوشاح – وهي الطبقة التي تسفل القشرة الأرضية – وتكون ما يعرف الآن ( القشرة المحيطية)، وهي أكثر سمكاً من القشرة الأولى… واستمرت الحركة العامة للأرض، وحركة أجزاء القشرة الأرضية، والتي يفصل بينها الشروخ والصدوع.
الشكل التالي يظهر الصدوع التي على سطح الأرض وتقسمه إلى صفائح تكتونية
إن البحث العلمي على مدى الأربعين عاماً الماضية أثبت أن أماكن التصادم بين أجزاء القشرة الأرضية ينتج عنه إندساس جزء بالنسبة للجزء المصطدم معه، ثم انصهار طرفه الهابط في الوشاح، وصعود منتجاته الصهيرية، لتكون مقذوفات بركانية على الجزء الآخر المتصادم معه، يجعله أكثر سمكاً وانتفاخاً، وتتكون بذلك ( نوية) لقشرة قارية… بينما الجزءان اللذان يتباعدان عن بعضهما ينتج عن تباعدهما اتساع يملأ بمحتويات الوشاح، وتتكون مناطق منخفضة من القشرة المحيطة… ونرى في نهاية هذه المرحلة أنه قد تكون على الأرض نوعان من المناطق، هي: نوبات قشرة قارية (مرتفعة) وقشرة محيطة (منخفضة)، إن إعداد هذه المناطق القارية الأولى يفوق ما اكتشفه العلماء منها – وحتى يومنا هذا – المائة نوبة قارية.
تكون الكتلة القارية الكبرى:
استمرت الحركات، وتصادمت الكتل القارية معاً، وتجمعت كلها في كتلة كبيرة الحجم، أسماها العلماء (بالبانجيا)، وتكونت هذه الكتلة القارية الكبرى من فصوق قارية أصغر ملتحمة مع بعضها، يفصل بين كل جزء وما حوله أثار من القشرة المحيطة التي كانت تحيط بها من قبل، وكان هذا هو السبيل أمام العلماء لتمييز هذه النوبات القارية وتحديدها، فهم يجدون أن قارة إفريقيا – مثلاً – مجزأة إلى أجزاء يفصل بينها وبين بعضها نطاق رقيق من القشرة المحيطة، وهذه اللحمة تسمى (بالأفيوليت)… وعجباً، أن نجد قشرة محيطية داخل القارة، ولكن هذه القشرة لا تنتمي من ناحية العمر لقشرة المحيط الموجود حالياً، بل كانت قشرة محيطية تفصل بين الكتل القارية الصغيرة، وحيث تجمعت واصطدمت هذه الكتل الصغيرة معاً لتكوين كتلة هائلة حسرت بينها بقايا القشرة المحيطية.
والسؤال الآن هو: من الذي قاد هذه الكتل الصغيرة عبر الأرض ليجمعها معاً في كتلة واحدة؟ سؤال لا يقدر على إجابته علماء الدنيا… إنه المدبر جل جلاله… هل يدخل هذا في معنى قوله تعالى: { وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ } [الرعد: 4]… لما لا… سبحانه الذي إذا أراد أمراً فإنما يقول له كن فيكون.
تكوّن القارات الحالية:
هنا، وبعد أن استقر الأمر، وأصبحت القشرة الأرضية الصلبة أكثر سمكاً – وصل إلى 70 كيلو متراً – وأصبح أسفل القشرة وشاح لدن في طبيعته… حدث رائع، وهو انفجارات حرارية من باطن الأرض، من الأعماق الخفية في نقاط محددة تسمى (بالنقاط الساخنة)، وهي شبيهة بالبقع الشمسية، أو الانفجارات التي يراها العلماء على الشمس، حيث تعلو المواد الملتهبة والغازات إلى آلاف الكيلومترات لأعلى، في نافورة حرارية، لقد وجدت أن الله تعالى أسماها في كتابه العزيز – الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه – بـ ( التنور)، ولنا في هذا حديث آخر لا يتسع الوقت له الآن.
هذه النافورات الحرارية شرخت الكتلة القارية الكبرى، وقسمتها إلى أجزاء، هذه الأجزاء هي القارات الحالية، وقد تحركت بعيداً عن بعضها حتى وصلت إلى وضعها الحالي… وقد بدأت القصة حين قام أحد علماء الجيولوجيا منذ نيف وسبعين عاماً بقص القارات الحالية من خريطة العالم وجمعها معاً، فاكتشف أنها تلتحم مكونة كتلة واحدة كبيرة، وتوالت الاكتشافات والأبحاث بعد ذلك تؤكد هذا.
الشكل العام /1/:
لقد أصبح الشكل العام للأرض هو مناطق قارية متسعة ومرتفعة تفصل فيما بينها مناطق منخفضة، هي الأحواض المحيطة، وفي تطور سابق لهذا كان الغلاف الجوي قد تكون أخرجت الأرض ماءها، فعاد إليها مطراً واستقرت المناطق المنخفضة، وهي البحار والمحيطات: { أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا } [النازعات: 31].. ولهذا حديث آخر.
لقد بدأ الأمر في الفرش بأن فرش الله المحيطات والبحار بالماء، فهذا فرش عظيم لا يلتفت إليه الكائن على أنه فرش، إن أكثر الفرش بساطاً هو ماء البحر، ولذلك يعتبر مبتدأ القياس في علم الطبوغرافيا – أو المرتفعات – فدائماً ما نقول: هذا المكان يرتفع كذا متراً عن سطح البحر، ولكن هل سطح البحر واحد على الكرة الأرضية، هذا حديث آخر.. إلا أنه أكثر الفرش بساطاً على الأرض.
ومن الطبيعي أن الحنان المنان سيجهز المناطق القارية بفرش تصلح للإنسان، وهنا نبدأ التواصل مع منظومة جديدة، خَلْقٌ من بعد خَلْقٍ، فتبارك الله أحسن الخالقين.
{ وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ } [الطارق: 12]:
هذا قسَمٌ أقسم الله به، والله يقسم بعظائم الأمور، وإن كانت كل آلائه معجزات { فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [الرحمن: 32]: والقسم يكون بصفة رئيسة في المقسم به… إن البشر – خاصة حيث نزل القرآن – لا يجدون الصدع أهم صفة في الأرض، بل وحتى المعاصرين من البشر ينكرون هذا، فكيف بألف وأربعمائة سنة ويزيد، إن ما أجمع عليه علماء الجيولوجيا المحدثين هو أن أهم صفة في الأرض هي (الصدع)، وقد كلف منظمو أحد المؤتمرات العلمية العالمية في عام 1976م أحد العلماء ( أجنبي غير مسلم) بتلخيص عام لبحوث المؤتمر التي ألقاها الجيولوجيون في جملة تكون عنواناً للمؤتمر فنطق فقال: ( لولا الصدع لأصبحت الأرض صلعاء)، كرأس الأصلع… فلما سئل عن هذا القول قال: إن أهم صفة في الأرض هي الصدوع، فلولا وجود المنخفضات الصدعية لتجمعت فيها مياه البحار والمحيطات والأنهار، لغطى الماء سطح الأرض بارتفاع ثلاثة كيلو مترات ولغرقنا جميعاً… ولولا المنخفض الصدعي لنهر النيل ما شربنا منه، ومن خلال الصدوع تكونت مناطق عالية وأخرى منخفضة على القارات، فاختلف المناخ، واختلفت البيئة النباتية والبيئية الحيوانية، وهطلت الأمطار، وجرى الماء حاملاً معه فتات الصخور لينزل بها على الوديان، فيفرشها بأنواع مختلفة من الفرش على مرّ الملايين من السنين.
الشكل العام /2/:
أصبح الشكل العام للأرض في هذه المرحلة هو مناطق قارية مرتفعة صالحة لعيش الإنسان، تحيط به مساحات شاسعة من فرش ماء، وفي هذه القارات العديد من الوديان والسهول التي تجري داخلها أنهار لا عد لها ولا حصر… {… وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً… } [لقمان: 20]. وأن هذه القارات أشبه بالسرير، أو المهد، المدعم، فهي من صخور نارية ومتحولة، صلبة ذات أوتاد تنغمس في الوشاح ( الطبقة التي تشغل القشرة الأرضية)، وانظر – رعاك الله – إنك إن أردت أن تعد مهداً لحبيب، فإنك تختاره مرتفعاً عمن حوله، ثم تبنى دعامة صلبة تضع فوقها فرش هذا المهد، إلا أن المهد الذي أعده الله لنا ليست دعائمه من حديد أو خشب، بل من الصخور الصلبة الرأسية، وهو فرش ليس من حشو ليف أو قطن، بل من أديم الأرض، مختلف ألوانه… كما سوف نرى.
طبيعة الفرش:
أن الأرض فرشت بالعديد من أنواع الفرش، فكل قطعة من الأرض قد فرشت بنوع مختلف من أنواع الفرش: { وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ } [الرعد: 4]، هذا في البعد الأفقي، كما سوف نرى، أما في البعد الرأسي – أي إن حفرنا أو استكشفنا بعضاً من الأعماق – فنجد أن هناك فُرُش بعضها فوق بعض، فعلى مدى التاريخ الجيولوجي فرشت المناطق مرات ومرات، وكل فرش يعلو الذي سبق، وكل فرش أدى – ويؤدي الآن – دوره، وفقاً لنوعه وسمكه وخواصه.
تخلص من هذا إلى أن الأرض فرشت لعدة مرات، ففي كل عصر من العصور هناك فرش، وكلما جاء عصر جديد جاء معه فرش جديد، لقد أصبحت الفرش القديمة مصانع للبترول والغازات الطبيعية ومخازن له، ومخازن لماء المطر، { وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ… } [المؤمنون: 18]. {… فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ } [الحجر: 22]. فالفرش القديمة مصانع ومخازن وثروات، والفرش الحديثة لنحيا عليها آمنين.
المخرجات البركانية:
النشاط البركاني على مدى العصور المختلفة – وحتى يومنا هذا – له مخرجاته من باطن الأرض، فالغازات – ومنها بخار الماء – تتصاعد إلى الغلاف الجوي، أما المواد الصلبة فإنها ثقيلة: { وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا } [الزلزلة: 2]. فإنها تنحدر منبسطة فوق السهول والوديان، مكونة فرشاً بركانياً داكن اللون، حيث تكون منه أخصب الأراضي الزراعية بعد ذلك ومن أكثرها إنباتاً، أما المواد الصلبة، من رماد بركاني – فإنه يكون سحابة عظيمة فوق البركان، تهبط بعد ذلك مكونة فرشاً دقيق الحجم، ناعم الملمس، يرقد فوق الفرش البركاني الصلب الداكن اللون، إن الثروات المعدنية المصاحبة لهذا النشاط، وما أخفاه الله من الخير في الفرش، لأمر مبهر تحير العلماء فيه.
الشكل التالي يبين بخار الماء يتصاعد من البركان ثم ينزل على شكل مطر
أنواع الفرش:
إضافة إلى أن البحار قد فرشت بالماء، والمناطق البركانية قد فرشت بالطفوح والرماد، فإن الصحارى قد فرشت – كثير من أجزائها – بالرمال – حيث تكونت بحار من الرمال ( كبحر الرمال الأعظم إلى الغرب من وادينا) وبحار الرمال في الجزيرة العربية وغيرها، وهي مختلفة في ألوانها ما بين الأصفر والأبيض والأحمر، وفقاً لمصدر الرمال، وهناك رمال الشواطئ، وهي نوع آخر من الفرش، من حيث الوضع والوظيفة، فإن مياه البحر تندفع إليه، فتتذلل مسامه وتبتعد عنه، فيعود فيتضاغط، وأنت تلاحظ ذلك حين تسير على الشاطئ بقدميك، فإن وزنك يسبب هبوطاً في موضع القدم وجفاف، حيث يطرد الماء من بين المسام، فإذا مر وقت دخل الماء ثانية إلى موقع القدم فانتفخ وعاد إلى ما كان عليه، وهناك فرش من الطين حول الأنهار،
وفي مصبات إلى موقع القدم فانتفخ وعاد إلى ما كان عليه، وهناك فرش من الطين حول الأنهار، وفي مصبات إلى موقع القدم فانتفخ وعاد إلى ما كان عليه، وهناك فرش من الطين حول الأنهار، وفي مصبات الوديان والسيول بالصحارى، حيث تتكون التربة الزراعية الخصبة بجوار الماء ليعملا في إنبات النبات، فيكون لنا ولأنعامنا زرعاً وماءاً، وهناك فرش من الحصى مختلف إحجامه وألوانه ومنافعه وغيره كثير، فنحن لسنا بصدد الإحصاء ولكن للبيان، فرشفة من النهر تكفي للدلالة على حلو مائه.
الشكل التالي بين الطفوح البركانية وهي تنساب على سطح الأرض
أما العجب العجاب الذي لا نستطيع مفارقة المجال قبل أن نذكره، فهو ذلك النوع من الصخور المسمى ( بالصخور الرسوبية) وهي صخور يسميها الجيولوجيون ( صخوراً ناعمة) لتمييزها عن الصخور الصلبة النارية والمتحولة، وهي صخور متماسكة، وكثير منها يتكون تحت ماء البحر، أي يلزم لتكونه وجود مياه بحرية، وهذا النوع من الصخور ( كالحجر الجيري) موجود فوق المهد القاري فوق الصخور الصلبة (والتي هي الدعامة الرئيسية للقارة أو المهد)، ويسفل الرواسب الفتاتية العليا، بمعنى أن الفرش الفتاتي الذي ذكرناه يرقد فوق وسادة ليست شديدة الصلابة، ثم ترقد هذه الوسادة فوق الدعامة الصلبة للقارة.. إن تكوين هذه الوسادة يستلزم أن يغمر البحر أجزاء من القارة لملايين السنين ليرسّب هذه الوسادة، ثم يتراجع تاركاً أياماً فوق اليابسة لتبدأ عمليات الفرش الأخرى تباعاً، فتبارك الله أحسن الخالقين.
لمحة حنان من الله الحنّان:
إن الطريقة التي تتراص بها حبيبات الفرش ليَسْجُدَ لها العلماء، فإن الناظر لقطاع رأسي يجد أن حجم الحبيبات غالباً ما يصغر من أسفل القطاع لأعلاه، أي أن أدق الأحجام تكون بالأعالي نتعامل معها، وذات الأحجام الأكبر تسفلها، وتتدرج الحبيبات في الكبر بصورة انسيابية حتى تصل إلى أكبر الأحجام في قاع القطاع، والتي ترقد بدورها فوق الغطاء الصخري المتماسك، ثم إن هذه الحبيبات بينها ما يعرفه العلماء (بالفراغات البينية) والتي تمتلئ بالهواء، أو بالماء أحياناً.
استنتاجات:
بعد أن خلق الله تعالى السماوات والأرض: { لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } [غافر: 57]. وفي الأرض: { وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا } [النازعات: 30]. وفرشها: { وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ } [الذاريات: 48]. وقدر فيها أقواتها: { وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ } [فصلت: 10]. وزينها: { وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ } [الحجر: 16]. فجعل فيها بديع الخلق، من مساقط المياه وزرع ونخيل وزهور وحبوب وطيور مختلف ألوانها، وسماء باهرة الحسن، وغير ذلك من الآيات المبهرة… وصدق الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن الله جميل يحب الجمال).
جاء خلق الإنسان بعد ذلك، فهو من أحدث الكائنات، فعمره لا يزيد – في أرجح الأقوال – عن بضع عشرات الألوف من السنين، بينما يبلغ عمر الأرض (4500) مليون سنة.
بعد هذا الإعداد الهائل لآلاف الملايين من السنين قال الله للملائكة: { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً…. } [البقرة: 30]… أسوق هذا لأدلل على أن المحبة من الله سبقت وجودنا، وما آلاف الملايين من السنين إلا محبة يعدّ الله لنا في كل لحظة منها ما يجعلنا سعداء آمنين حين يسكننا الأرض: إنك إن أحببت شخصاً، أو جنيناً سيولد لك، فإنك تعد له، ولكن إلى كم وإلى متى ستعد له، إن الله الحبيب أعد لنا هذا المهد طوال (4500) مليون سنة، وهذا يدعونا إلى الخشوع وإلى أن نسجد شاكرين له وحده لا شريك له…
المهد يتحرك:
تأكد لعلماء الجيولوجيا أن قطع الأرض ما زالت تتحرك سابحة فوق بطانة الوشاح التي تسفلها مباشرة، وقد أدت أبحاث مستفيضة – استغرقت أكثر من خمسين عاماً – إلى أن قطع القشرة الأرضية الهائلة الحجم تتحرك… ولنعطي مثالاً علمياً لجزء واحد منها، وهو ما يعرف (باللوح الإفريقي) ويشتمل قارة إفريقيا، والنصف الجنوبي للبحر الأبيض المتوسط، والنصف الغربي للبحر الأحمر، والنصف الشرقي للمحيط الأطلسي الجنوبي، وجزء كبير من قاع المحيط الهندي… هذا الجزء يتحرك بما عليه من سلاسل الجبال الممتدة من صحرائنا الشرقية، جنوباً في السودان ثم الحبشة. وجبال شمال إفريقيا وغربها وجنوبها الغربي… كل هذا اللوح العظيم من ألواح القشرة الأرضية يتحرك حركة بطيئة جداً، تصل إلى عدة سنتيمترات كل عام، في عكس اتجاه حركة عقارب الساعة، مع الاندفاع نحو الشمال في حركة انسيابية مزدوجة.. فيجانب أنه يدور حول نفسه في حركة دائرية، فإنه يندفع في الوقت نفسه ناحية الشمال.
ويتحرك ( اللوح العربي) المجاور لنا من ناحية الشرق، وهو اللوح الذي تقع فيه الجزيرة العربية بنفس الأسلوب، وفي نفس الاتجاه، ولكنه يسبح بسرعة أكبر من سباحة اللوح الإفريقي، فاللوح الإفريقي يجري خلف اللوح العربي، ولكن الأخير يسبقه قليلاً كل عام، مما يتسبب في اتساع البحر الأحمر بينهما إلى عدة سنتيمترات كل عام.. فلكي تتسع المسافة بينه وبينك لا يشترط أن نسير في اتجاهين متضادين، ولكن من الممكن أن يحدث هذا إذا سرنا في نفس الاتجاه، والذي في المقدمة يسير بسرعة أكبر من الذي يليه… وهنا سوف تتسع المسافة بيننا تدريجياً، وإن كان علماء الجيولوجيا قد أدركوا بعض الفوائد لهذه الحركات – لأنهم أول من اكتشفها – إلا أنني أعتقد أنه سيأتي اليوم الذي يجد فيه علماء البيولوجيا فوائد جمة لهذه الحركات، فلا بد أن لها تأثيراً على الحياة النباتية والحيوانية على مر العصور، وقد تلحق أو لا تلحق بهذا اليوم، فقد تكون عند الرفيق الأعلى الذي يغنينا بعلمه وفيضه عن كل هذه الاجتهادات… ؟!
آليات الفرش:
إن الإنسان يستخدم في أعمال الفرش ألياف وميكنة، ظاناً أنه قد أدى العمل بآلياته، ولا ينظر للمواد التي استخدمها: كيف جاءت، وكيف أصبحت صالحة للاستخدام في عمليات الفرش… وهو بكل آلياته يعمل في مجال محدود للغاية.. أما الآلية التي وضعها الله في الأرض فهي تحوي أكثر من مليون عملية، نعرفها حتى الآن، تتناغم مع بعضها عبر الزمان والمكان، لتكوّن منظومة الفرش، فالنشاط الناري يقوم بدفع المواد من باطن الأرض ليكوّن صخوراً نارية، تشكل المصدر الأم للمواد، وما يحدث لها بعد ذلك من تجوية وتعرية وتكوين صخور رسوبية ثم متحولة فنارية مرة أخرى، وهو ما يعرف بـ (الدورة الصخرية). وهناك دورة أخرى تعرف (بالدورة الحركية) والتي تتسبب في تحرك المواد وصعودها وهبوطها ودورة ثالثة تعرف ( بالدورة المائية)، وهي حركة المياه والهواء وغازات الغلاف الجوي… وهذه الدورات الثلاث تتداخل مع بعضها وتعمل بلا تعارض، بل تتوافق في منظومة واحدة. ولكل مكان وكل ظرف قانون، حتى تحيرت عقول علماء الجيولوجيا وعاش الآلاف منهم في كل عصر يدرسون ويدققون فيما يحدث أمامهم.
إن أهم المعجزات في نظام الأرض هو الدوام الدوري للعمليات الجيولوجية، والتي لا تتوقف أبداً إلا بفناء الأرض ومن عليها، حتى علم الجيولوجيون أن التغيير الدائم لسطح الأرض هو القانون الثابت، بمعنى أن الثابت الوحيد هو التغير، إن عمليات فقدان الكتلة الصخرية من أماكن ونقلها إلى أماكن أخرى، وعمليات تكون الأنهار ( وصباها وشبابها وشيخوختها) وانتقالها من مكان لآخر، وحركة المياه الجوفية والبحرية والثورات البركانية والانجرافات القارية، وغير ذلك، مما يضيق المقام عن ذكره… كل هذا يحدث ولا يحس البشر بمعظمه، وبطريقة هادئة رائعة الحُسْن لا تعطل مجرى حياتنا، بل تساعدنا على أداء رسالتنا التي خلقنا من أجلها… إن هذا التناغم لا يكون إلا يفعل الخالق العظيم جل جلاله، وللإنسان أن يدعى ما يشاء إلا أن العالم من البشر يبقى دائماً في زمرة الذين وصفهم الله في كتابه العزيز: { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ } [فاطر: 28].
__________________________________
(1) أستاذ الجيولوجيا بكلية العلوم جامعة القاهرة، وعضو اللجنة الدائمة لترقية الأساتذة في الجيولوجيا.
وللراغبين بمتابعة البحث بكامله مراجعة الموقع www.quran-m.com