أ. زينب ضاهر*
مقدمة: بسم الله الرحمن الرحيم، أصبح من البديهي الإقرار بأن للمحيط تأثيره الأساسي على سلوك الأطفال وعلى مستوى تفكيرهم؛ وقد أمضى المتخصصون بنمو الطفل عشر سنوات، قاموا خلالها بأبحاث أظهرت تأثير محيط الطفل في سنواته الأولى على حياته كلها. وبفضل التطور التكنولوجي المتقدم، بات لدينا فهم واضح لتأثير المحيط المتعلق بنمو الدماغ خلال المرحلة الأولى. ويستطيع علماء الأعصاب الآن تحديد أنماط (patterns) تظهر في عمل الدماغ، لها علاقة بتجارب سيئة قد يكون الطفل قد مرّ بها.
بات بالإمكان الآن مشاهدة تأثير الضغط النفسي، مثل الفقر والإهمال وسوء المعاملة وصار ممكناً توثيقها عبر أدوات المسح الدماغي brain scanning tools.(1)
حتى 15 سنة مضت، كان الاعتقاد السائد لعلماء الأعصاب، أن دماغ الطفل مرتهن مسبقاً بجيناته الوراثية، كما أشار معهد “العائلات والعمل”(2) (the Families and Work Institute)، في دراسة له تحت عنوان “إعادة تفكير حول الدماغ (Rethinking the Brain). ولكن الأبحاث الأخيرة في السنة الماضية أظهرت عكس ذلك. إذ تقوم الخبرات التي يمر بها الطفل خلال طفولته بتأثير دراماتيكي ومحدد حول تشابك الدوائر العصبية في الدماغ (exert a dramatic and precise impact) (NEWSWEEK, Feb. 19, 1996). منذ ذلك الوقت والدراسات تجري حول كيفية تشكيل الخبرات للدوائر العصبية في الدماغ.
أولاً- اختلاف دور الخلايا العصبية عند الولادة عن دورها خلال نمو الطفل:
عند الولادة، يحتوي الدماغ على حوالي 100 بليون خلية عصبية تشكل 50 ترليون وصلة عصبية (synapses). تقوم الجينات الناتجة عن تلقح البويضة بالحيوان المنوي بتحديد أساس تشابك الخلايا العصبية في الدماغ التي تجعل القلب يخفق والرئتين تتنفسان فقط. ومن بين 80 ألف جينة مختلفة لدى الإنسان، يُعتقد بأن نصف عددهم مسؤول عن تشكيل وعمل النظام العصبي المركزي. ولكن حتى هذا العدد لا يفي بالمطلوب في ما يحتاجه الدماغ. ففي خلال الأشهر الأولى من حياة الطفل، سيتضاعف عدد الوصلات العصبية إلى 20 ضعف أي أكثر من ألف ترليون. وليس لدى الجنس الإنساني ببساطة عدد من الجينات الكافي لتحديد عدد كبير من الوصلات. فيبقى الأمر للتجارب التي يمر بها الطفل لتقوية الوصلات العصبية في الدماغ(3).
والخلايا العصبية هي بمثابة المحرّك الذي ينفّذ أوامر الدماغ المعقّدة، ولأن دورها مهم جدّاً فإنها مؤلفة من جسم متفرّع. هذه الفروع تتلقى إشارات كيميائية عبر الدماغ حيث تنتقل عبر محور عصبي داخل الخلية يدعى “أكسون” AXON . كل أكسون لديه مخزن يحتوي على الناقلات العصبية في نهايته. وتعتبر الاشارات الكهربائية المحفّزة داخل العصب مسؤولة عن إطلاق الناقلات العصبية الى الفروع القريبة للخلايا العصبية وبذلك تتم عملية نقل الرسائل من الدماغ والى سائر الجسد عبر الشبكة العصبية. وتسمّى هذه العملية شبكة الدماغ حيث يمكن لكل خلية التواصل مع حوالي 15،000 خلية أخرى. وتلعب التجارب التي يتعرض لها الرضيع في عامه الأوّل دوراً مهماً في تشكّل هذه الشبكة الدماغية. وبعد ذلك يعمل الدماغ فقط على تطوير الشبكة(4).
التجارب التي يتعرض لها الطفل في أوائل سنواته لها أثر عميق ودائم على طريقة تشكّل بنية الدماغ الداخلية. تحدد الجينات المخطط الأساسي لتشكيل الدماغ في حين تقوم التجارب بتشكيل العملية التي تحدد إذا ما سيكون لدماغ الطفل ركيزة قوية أو ضعيفة يبنى عليها كافة السلوكيات التعلمية والصحية في المستقبل(5).
تتأثر المرحلة الأولى من النمو بالجينات، فالجينات توجّه الخلايا العصبية (neurones) إلى مكانها المحدد في الدماغ وتلعب دوراً في كيفية تفاعل هذه الخلايا، وتقوم بترتيب العملية الأساسية لتوصيل الخلايا ببعضها البعض (wiring) في الدماغ، لكن لا تقوم الجينات بتصميم الدماغ بشكل كامل.
ما تقوم به الجينات هو السماح للدماغ بالتكيف وحده بحسب ما يتلقاه من محيطه، تنقل حواس الطفل إلى الدماغ ما يدور في محيط الطفل وما يختبره، وتحفز هذه الداخلات (inputs) النشاط العصبي (neural activity)، مثال على ذلك سماع الحديث، الذي يحفز النشاط في المنطقة المتعلقة باللغة في الدماغ، وبقدر ما يسمع الطفل من الكلام بقدر ما تتفعّل الوصلات العصبية (synapses) بين الخلايا العصبية في هذه المنطقة وتتنشط(6).
ثانياً- وصلات عصبية تقوى بالاستعمال ووصلات تختفي بسبب الإهمال:
خلال هذه الاعوام المهمة لنمو الدماغ، يؤدي تواصل الخلايا العصبية في ما بينها إلى إنشاء دوائر (circuits) تشكل في ما بعد البنية الأساسية للدماغ.
تنتشر هذه الدوائر والوصلات (connections) في الدماغ بشكل سريع وتتعزز عبر الاستعمال الدائم الناتج عن التجارب التي يمر بها الطفل والمحيط الذي يعيش فيه.
الوصلات المستعملة بشكل دائم بسبب الخبرات والتجارب التي يمر بها الطفل تتعزز وتقوى في حين تلك التي تستعمل بشكل أقل تختفي ضمن عملية “الاستغناء” Pruning، تنتج الدوائر العصبية الأساسية المستعملة ممرات عصبية فائقة السرعة للتنقل في الدماغ.
فتشكل الدوائر البسيطة أولاً، ركيزة يبنى عليها لاحقاَ دوائر أكثر تعقيداً. خلال هذه المرحلة، تنشئ الخلايا العصبية دوائر قوية ووصلات خاصة بما يلي: المشاعر، المهارات الحركية، السيطرة السلوكية، المنطق، اللغة والذاكرة وذلك خلال المرحلة الاولى المهمة من نمو الطفل.
مع الاستعمال المتكرر تصبح هذه الدوائر أكثر فاعلية وترتبط بمناطق مختلفة من الدماغ بسرعة، منشؤها منطقة محددة من الدماغ لكن سرعان ما ترتبط الدوائر ببعضها البعض حتى لا يصبح لدينا مهارة إلا وهناك مهارة أخرى تدعمها. مثال على ذلك بناء البيت، يتم بناء الأساسات وعليه يتم تكملة بناء البيت(7).
ثالثاً- السؤال الذي يطرح نفسه، كيف يتم إنشاء بنية قوية للدماغ؟
تشكل عملية التفاعل عبر الإرسال والاسترجاع Serve and return interaction، بنية قوية للدماغ، في هذه اللعبة التنموية، تنشأ الخلايا العصبية في الدماغ بمجرد ما يبدأ الطفل بالمناغاة وبالقيام بحركات بوجهه وجسده، يقوم البالغين بدورهم بالتفاعل مع الطفل بشكل مباشر، وقد يحوّلون انتباهه إلى وجه معين أو يد أحدهم.
يشكل هذا التفاعل الركيزة الأساسية التي سيبنى على أساسها الدماغ وبالتالي نموه بشكل كامل في المستقبل. إذ يساعد التفاعل على خلق وصلات بين الخلايا العصبية في مناطق مختلفة من الدماغ منشئين المهارات العاطفية والمعرفية التي يحتاجها الطفل في حياته.
مثال على ذلك، في ما يتعلق بمهارات تعلم الكتابة والقراءة وتعلم اللغة، عندما يرى طفل شيء معين يخبره الأهل باسم هذا الشيء، لنأخذ الكرة (الطابة) مثلاً، يؤدي هذا الأمر إلى وصلات معينة في الدماغ تربط الصوت المحدد الذي تلفظ به الأهل وصورة الشيء الذي رآه (الطابة)، لاحقاً يُري الأهل الطفل نفس الشيء (الطابة) موجوداً في كتاب، وبالتالي بات من السهل على الطفل تعلم الكتابة ومحاولة الكتابة بنفسه، وكل مرحلة تُبنى على المرحلة التي سبقتها(8).
لذلك يقع على عاتق الأهل مسؤولية التواصل والتفاعل الدائم مع الأطفال منذ نعومة أظافرهم من أجل بناء ركيزة أساسية للدماغ جاهزة للسلوكيات التعلمية والصحية في المستقبل.
رابعاً- السلبيات التي تؤثر في الدماغ:
من سلبيات المرونة الكبيرة التي يتمتع بها الدماغ عرضته الشديدة للصدمات. يقول الدكتور بروس بيري من جامعة بايلور للطب: “قد تغير التجربة سلوك الفرد الناضج”، لكنها “بشكل حرفي تنشئ نظام الإطار العملي” لدماغ الطفل. بما أن تنظيم الدماغ يعكس الخبرة التي يمر بها الطفل، وخبرة الطفل الذي تعرض للصدمة هي الخوف والقلق، تصبح الاستجابات العصبية-الكيميائية للخوف والقلق هي الأقوى في بنية دماغ الطفل. وبحسب الدكتورة ليندا مايس من مركز يال لدراسة الطفل “إذا عشت خبرات بشكل كبير ومتكرر تتغير بنية الدماغ”، تقوم الصدمة برفع مستوى هرمون القلق / الضغط النفسي مثل الكورتيزول، والذي يقوم بغسل الدماغ الناعم كالأسيد (الحامض). وبالتالي المناطق في قشرة الدماغ والنظام الحوفي (in the cortex and in the limbic system) المسؤولة عن المشاعر والتعلق، تصبح أصغر بنسبة 20 إلى 30 % لدى الأطفال الذين أسيء إليهم مقارنة بالأطفال الذين حصلوا على طفولة طبيعية. يجد بيري احتواء هذه المنطقة من الدماغ على وصلات عصبية أقل عدداً.
لدى البالغين الذين أسيء إليهم في طفولتهم، الحصين المسؤول عن الذاكرة (the memory-making hippocampus is smaller) هو أصغر حجماَ مقارنة بالحصين لدى البالغين الذين عاشوا حياة طبيعية في طفولتهم. ما يُعتقد بأنه نتيجة للأثر السام للكورتيزول.
يؤدى ارتفاع الكورتيزول خلال السنوات الأولى من حياة الطفل إلى زيادة نشاط تكوين الدماغ المتعلق بالاحتياط / والاحتراس وتحريك المشاعر ويدعى ذلك بالموضع الأزرق (The locus ceruleus).
وبناء على ذلك يتم بناء الدماغ ليكون على أهبة الاستعداد. As a result the brain is wired to be on hair-trigger alert.
يضيف بيري: المناطق التي تنشطت خلال الصدمة الأولى تنشط من جديد في حال رأى الصدمة في حلمه أو تذكرها أو ذكره شيء بها (كوجود الشخص الذي سببها له). يقوم أقل شعور بالقلق وأول ما يبدأ الخوف بإطلاق العنان لاندفاع هرمونات جديدة من القلق. يؤدي ذلك إلى النشاط الزائد، التوتر والسلوك الاندفاعي. تقول عالمة الأعصاب ميغان غانر من جامعة مينيسوتا بأن الأطفال الذين لديهم مستوى عالي من هرمون الكورتيزول score lowest on inhibitory control ولدى الأطفال الذين يعيشون في محيط ذو توتر وقلق عالي مشاكل في ضبط التركيز والسيطرة الذاتية(9).
خامساً- وجه الإعجاز في هذا البحث:
يتبين من خلال هذه البحوث الطبية، عدل الخالق جلّ وعلا، في الخلق، فإذا كان الأبوان سويّين، جاء الأطفال متساوون في تكوين الجهاز العصبي لأدمغتهم، واقتصر عملها على تشغيلات ميكانيكية في الجسم، مثل حركات القلب والرئتين، فالدماغ صفحة بيضاء يكتب عليها الوالدان بعد ذلك ومعهم المربية والأهل والبيئة المحيطة كيف سيكون أداء المولود من مرحلة الطفولة وحتى بلوغ الرجولة. ومن المؤسف أن غالبية الأهل يتأخرون في الاهتمام بأولادهم وفي تعليمهم مهارات يظنونها صعبة على الأطفال، وهي في الحقيقة أساس لتنمية ذكاء الطفل وذاكرته وحسّه ومشاعره وإدراكه. ومن أهم هذه الملَكات تنمية عقله وشعوره بوجود الخالق، والتمييز بين الخير والشر في الأقوال والأعمال.
وصدق رسولنا الكريم القائل: “كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه كمثل البهيمة تنتج البهيمة هل ترى فيها جدعاء؟ ” (عن أبي هريرة ، متفقٌ عليه).
يتضاعف عدد الخلايا العصبية في السنة الأولى للطفل عن العدد الذي ولد معه. وترتفع نسبتها إلى 80 % مقارنة مع تلك الموجودة لدى البالغين، وتنشأ الوصلات العصبية بشكل سريع في السنوات الأولى أكثر من أية سنة تليها، وفي الحقيقة، يقوم الدماغ بخلق عدد أكبر من الوصلات التي يحتاجها، ويكون عددها أكبر بمرتين أو ثلاث مرات من تلك الموجودة لدى البالغين، إلى أن يتضاءل العدد مع مرور مرحلتي الطفولة والمراهقة(6).
* عضو في منتدى الإعجاز العلمي في القرآن والسنة- لبنان، خريجة الجامعة اللبنانية كلية الإعلام والتوثيق، صحافة – متخصصة في علوم الإعلام
المصادر والمراجع:
(1): مقالة “Baby’s brain begins now Conception to age 3” نشرها معهد الطفل المدني The urban child institute
(2): معهد العائلات والعمل (Families and Work Institute (FWI)) هو مؤسسة دراسات لا تبغي الربح، غير حزبية تعمل على دراسة القوى العاملة، العائلة والمجتمع.
(3): مقالة “How to build a baby’s brain” لـ شارون بيغلي نقلاً عن موقع www.newsweek.com
رابط المقالة: http://www.newsweek.com/how-build-babys-brain-174940
(4): من دراسة تحت عنوان “Cartoon’s effect in changing children mental response and behavior” لخالد حبيب وطارق سليمان نشرت على موقع Open Journal Social Sciences
رابط الدراسة: https://www.scirp.org/journal/PaperInformation.aspx?PaperID=59815
(5): فيديو تحت عنوان “Experiences build brain architecture” نشره مركز نمو الطفل في جامعة هارفرد – Center on The Developing Child at Harvard University
رابط الفيديو: https://www.youtube.com/watch?v=VNNsN9IJkws
(6): مقالة “Baby’s brain begins now Conception to age 3” نشرها معهد الطفل المدني The urban child institute
رابط المقالة: http://www.urbanchildinstitute.org/why-0-3/baby-and-brain
(7): فيديو تحت عنوان “Experiences build brain architecture” نشره مركز نمو الطفل في جامعة هارفرد – Center on The Developing Child at Harvard University
(8): فيديو تحت عنوان “Serve and return interaction” نشره مركز نمو الطفل في جامعة هارفرد – Center on The Developing Child at Harvard University
رابط الفيديو: https://www.youtube.com/watch?v=m_5u8-QSh6A
(9): مقالة “How to build a baby’s brain” لـ شارون بيغلي نقلاً عن موقع www.newsweek.com
رابط المقالة: http://www.newsweek.com/how-build-babys-brain-174940