د. ميساء بنات*
العدد الثامن والأربعون شتاء 2019 – 48
الدموع، تِلك اللُّغة المُشتركة بين البشر كباراً و صغاراً، إناثا وذكوراً، والتي تعكس حقيقة ما يكمن في الأعماق.
بالإضافة إلى المدلولات الإنسانية والعاطفية العديدة للدموع، هناك فوائد جَمَّة دَرَسَها العُلماء على مَرِّ العصور.
ذكر مقال كُتب قبل أكثر من عقدين أن عالم الكيمياء الحيوية و “خبير الدموع” ويليام فراي أمضى خمسة عشر عاماً ، كرئيس فريق بحثي في مركز رامزي الطبي في مينيابوليس (الولايات المتحدة الأمريكية)، يدرس الدموع. من المثير للإهتمام أن يكرس هذا القدر من البحث لدراسة جانب واحد من جسم الإنسان ولا يكشف تماماً عن عمق أسراره، إنه بديع خلق الله سبحانه و تعالى.
في بداية دراسته، كان فراي يعتقد أن القناة المُسَيِّلة للدموع هي من بقايا تطوُّر الجنس البشري ولم تَعد ضرورية. غير أن ما تم الكشف عنه هو أن العضو المنتج للدموع، وكذلك الدموع نفسها، مُعقَّدة للغاية ومُهمة.
ناقش الدكتور أورلوف في كتابيه “دليل البقاء على وَجه اليقظة” و “الحُرية العاطفية”، العديد مِن الفوائد الصُّحية للدُّموع، وذًكر أن العُيون تنتج ثلاثة أنواع مِن الدُّموع: مُنعكسة، مُستمرة، وعاطفية. كلّ نوعِ له دَوْر وفعالية مختلفة. على سبيل المثال، تسمح الدموع الانعكاسية للعيون بالتخلص من الجسيمات الضارة عند الغضب أو عند التعرض لِلتَلَوُّث كالدُّخان وغيره. أما النَّوع الثاني، فهوالدُّموع المُستمرة، يَتم إنتاجها بانتظام للحفاظ على أعين مُشحمة، تحتوي هذه على مادة كيميائية تسمى “الليزوزيم” والتي تعمل كمضاد للبكتيريا وتحمي العين من العدوى. كما تنتقل الدموع إلى الأنف عبر القناة الدَّمعية للحِفاظ على رُطوبة الأنف والحِفاظ على البكتيريا النَّافعة؛ عَادة ، وبعد البُكاء والتَّنفس وانخفاض مُعدل ضَربات القلب، يَدخل الشخص في حالة بيولوجية وعاطفية أكثر هُدوءاً.
اكتشفَ الدكتور ويليام فراي أنَّ الدُّموع الانعكاسية مُكونة من 98٪ من المياه ، في حين أن الدُّموع العاطفية تَحتوي أيضاً على هرمونات التَّوتُّر التي تفرزُ من الجسم بواسطة البكاء. بعد دراسة تَركيبة الدُّموع، وَجَدَ الدكتور فراي أنَّ الدُّموع العاطفية تُخلّص الجَسَدَ مِن هذه الهرمونات والسُّموم الأخرى التي تَتَرَاكم أثناء الإجهاد. كما تشير دراسات إضافية إلى أن البكاء يحفز إنتاج الإندورفين، وهو قاتل طبيعي للألم الجسدي، ومحفز لهرمونات “الشعور بالراحة”.
إضافة إلى إزالة السُّموم الجَسدية، فإن الدُّموع العاطفية تَشفي القلب. فالبكاء يَجعلنا نشعُر بتحسُّن حتى إن لم ينتفِ سَبب البكاء. وهي طريقة لتطهير المَشاعر المَكبوتة بِحيث لا تَظهر في مَرض جسدي كالفايبرومايلجيا fibromyalgia. ويشجع الأطباء والمعالجون النفسيون مرضاهم، نساءً ورجالاً على البكاء لِلحِفاظ على الصّحة والإفراج عن التَّوتُّر. و يُؤكد عُلماء النفس أن الدُّموع علامة على الشجاعة والقوة والأصالة.
يَنصح الدكتور أورلوف بِترك الأفكار القديمة البَالية وغير الحقيقيّة حَول البُكاء. إذ يقول إنه من الجيّد أن تَبكي، بل إنه من الصّحي أن تَبكي. هذا يُساعد على إزالة الحُزن والضّغط العاطفي. كما أنه يؤكد أن البُكاء ضَروريّ أيضا للتَّعامل مع الحُزن . بِخلاف ذلك، فنحن مُعرَّضون للاكتئاب إذا قَمَعْنا هذه المشاعر القوية.
وتقول إيميلي فريمان في كتابها “مليون قصة صغيرة”: “انتبه لِما يَجعلك تَبكي”. وتشير ، “…. دموعنا هي رُسُل صغيرة ، بل هي حَرْس سِرِّي مِن النَّوع الأكثر ضَعفا ، أُرسلت لإيصال رِسالة مُهمة … إنها هدية مِن حَياتنا الدّاخلية، أُرسلت لتذكيرِنا بتلك الأشياء التي تُبقينا على قَيد الحياة. وحيث هناك الدُّموع هناك أكثر من الألم … “.
فكم سَالَ الدّمعُ لِمُصابٍ أَلَمَّ بِنَا، أو لِمَسَرَّة بَعد طولِ عَناء والدَّمعُ أحياناً مَنبعُه الخُشوع، فكم من دمعة تُسْكبُ فيَقوى بها الإيمان، في لحظاتِ صِدقِ تَوبَة، ونَوباتِ خُشوعٍ صادقةٍ تَتَلمَّسُ شغافَ القلبِ المُنيب إلى ربِّه، يُحاسبُ فيها نَفسه، ويُجدِّد فيها العَهد، وعندها تثورُ ثائرةُ المشاعرِ الصَّادقة التَّائبة، وتَغرَوْرَقُ العَينان بالدُّموع إيماناً، يكون البكاء عندئذٍ أَشبَهُ ما يكون بِغَيث السَّماء الذي يُرسله الله سُبحانَه على جَدْباء الأرض فَيُحْييها ويُنْبِتُ فيها الحَياة مِن جَديد.
فالحمدُ لله أن لأجسادِنا هذه القُدرة. فَلنَدَعْ دموعنا تتدفّق لتنقية التوتر والسلبية. ولْتتحوّل دموعنا إلى عبادة تُطَهِّر أعماقنا. قال تعالى في كتابه العزيز {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء، 109].
وقال تعالى في سورة أخرى: {أُولَٰئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا ۚ إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَٰنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم،58].
وعن أَبي أُمامة صُدَيِّ بْنِ عَجلانَ الباهِليِّ، رضيَ اللَّه عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:”لَيْسَ شَيءٌ أَحَبَّ إِلى اللَّه تَعَالَى مِنْ قَطْرَتَين. وأَثَرَيْنِ: قَطْرَةُ دُمُوعٍ مِنْ خَشيَةِ اللَّه وَقَطرَةُ دَمٍ تُهرَاقُ في سَبِيلِ اللَّه تعالى، وَأَمَّا الأَثَرَانِ فَأَثَرٌ في سَبيلِ اللهِ تَعَالَى وَأَثَرٌ في فَرِيضَةٍ منْ فَرَائِضِ اللَّه تَعَالَى”. رواه الترمذي وقال: (حديثٌ حسنٌ).
وعن أبي هريرة – رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “سَبعةٌ يُظلُّهم اللهُ في ظِلِّه يَومَ لا ظِلَّ إلا ظِلُّه: إمامٌ عادل، وشابٌ نشأ في عِبادة الله تعالى، ورَجُلٌ قَلبُهُ مُعَلقٌ في المَساجِد، ورَجُلان تَحابَّا في الله اجتَمَعَا عَليه وتَفَرّقا عَليه، ورَجَلٌ دَعَتْهُ امْرَأةٌ ذَات مَنْصِبٍ وجَمال، فَقَال: إنِّي أخَافُ الله، ورَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفاها حَتَّى لا تَعلم شِمالهُ ما تُنفِقُ يَمينه، ورَجُلٌ ذَكَرَ الله خَالِياً فَفاضَت عَيْناه” . (متفق عليه).
_________________________________________
*أستاذة في جامعة رفيق الحريري وعضو منتدى الإعجاز العلمي في القرآن والسنة – لبنان.
المصادر:
Hasson, O. (2009). Emotional Tears as Biological Signals. Evolutionary Psychology. https://doi.org/10.1177/147470490900700302
Adapted from Dr. Judith Orloff’s book “The Empath’s Survival Guide: Life Strategies for Sensitive People” (Sounds True, 2017)
Vingerhoets, A. (2013). Why only humans weep: Unravelling the mysteries of tears. Oxford University Press.
https://faculty.psau.edu.sa