د. صبحي رمضان فرج سعد*
العدد الثامن والأربعون شتاء 2019 – 48
لم يعرف العالم نظام المحميات الطبيعية إلا في القرن التاسع عشر، ففي عام 1864م أعلنت حكومة واشنطن “وادي يوسيميتي” Yosemite محمية طبيعية، وفي عام 1872م تأسست محمية “يلوستون” Yellowstone، بينما لم يعقد أول مؤتمر للمحميات إلا في عام 1964م.
وفي الوقت ذاته حرص الإسلام حرصاً شديداً على الحياة الفطرية، فاعتنى بتنميتها وحمايتها، فلقد عرفت العرب قديما ما يعرف بـ”الحِمى”، والحِمى هو المكان المحمي، خلاف المباح . فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “لا حمى إلا لله ورسوله”(رواه البخاري)، ومعناه: أن يمنع الإمام الرعي في ارض مخصوصة لتختص برعيها إبل الصدقة، مثلاً .
ويمكن القول بأن الإسلام كان أول من قرر مبدأ المحميات الطبيعية ، فلقد دعا إلى جعل مكة والمدينة حرمين آمنين ” أي محميتين طبيعيتين (حيويتين)” منذ ما يزيد عن ألف وأربعمائة عام، كما سن الإسلام التشريعات المناسبة لحماية الحياة البرية بهذه الأماكن المحرمة ؛ وبذلك كان له السبق في إدخال هذه التشريعات الحضارية المتقدمة للحفاظ على البيئة. ويمكن الأخذ بهذه التشريعات وتطبيقها على المحميات الطبيعية التي يتم إقرارها وتطبيقها في الوقت الراهن.
فقد روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم فتح مكة “إن هذا البلد حرام لا يُعضد شوكه ولا يُختلى خلاه ولا ينفّر صيده ولا تُلتقط لُقطته إلا لمعرّف”، فقال العباس: يا رسول الله إلا الإذخر (نبات عشبي معمر ذو رائحة عطرية ذكية تشبه في الغالب رائحة الورد) فإنه لِقَينهم ولبيوتهم. فقال:”إلا الإذخر”. وروى الإمام مسلم عن جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “إن إبراهيم حرّم مكة ، وإني حرمت المدينة، ما بين لابتيها، لا يقطع عضاها ولا يصاد صيدها” .
نبات الإذخر
وقوله صلى الله عليه وسلم “لا يعضد شوكه” وفي رواية “لا تعضد بها شجرة”، وفي رواية “لا يختلى شوكها” وفي رواية “لا يخبط شوكها”، قال أهل اللغة (العضد) القطع، و(الخلا) هو الرطب من الكلأ ، وقالوا: الخلا والعشب أسم للرطب منه، والحشيش والهشيم اسم لليابس منه، و(الكلأ) يقع على الرطب واليابس، وعدّ ابن مكي وغيره من لحن العوام إطلاقهم اسم الحشيش على الرطب. ومعنى (يختلي): يؤخذ ويقطع ، ومعنى (يخبط) : يضرب بالعصا ونحوها ليسقط ورقه ، وقد اتفق العلماء على تحريم قطع الأشجار التي لا يستنبتها الآدميون في العادة، وعلى تحريم قطع خلاها، واختلفوا فيما ينبته الآدميون. وقوله (ولا ينفر صيده) تصريح بتحريم التنفير، وهو الإزعاج وتنحيته من أوكاره، فإن نفرّه عصى، سواء تلف أم لا، لكن إن تلف في نفاره قبل سكون نفاره ضمنه المنفر، وإلا فلا ضمان، قال العلماء ونبه على الإتلاف ونحوه؛ لأنه إذا حرم التنفير فالإتلاف أولى”.
وحدد التشريع حدوداً جغرافية واضحة لهذه المحميات تعرف بـ “أنصاب الحرم”، وهى لمكة التنعيم في الشمال (6 كيلومترات) وأضاه في الجنوب (12 كيلومتراً) والجعّرانة في الشرق (16 كيلومترا) ووادي نخلة في الشمال الشرقي (14 كيلومترا) والشميسي (الحديبية من قبل) في الغرب (15كيلومترا) .
وتتفق الآثار على أن تحديد أنصاب الحرم تم عن طريق ملائكة الرحمن، وبالأخص جبريل عليه السلام، ولكنها اختلفت في زمن ذلك التحديد، وارتبط ذلك في الأساس ببناء البيت الحرام ، فذكر الأزرقي أنه تم في زمن آدم عليه السلام، بينما نقل محب الدين الطبري عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن الذي نصبها إبراهيم عليه السلام، ولم تحرك حتى كان قصي بن كلاب، فجددها، ثم لم تحرك حتى النبي صلى الله عليه وسلم ، فبعث عام الفتح تميم بن أسيد الخزاعي فجددها، كما جددها من بعده عمر ومعاوية وعبد الملك بن مروان.
وكذلك فقد حرّم النبي صلى الله عليه وسلم ما بين لابتي المدينة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين لابتي المدينة، وجعل اثنى عشر ميلا حول المدينة حمى”، واللابة : هى الحرة ، وهى الحجارة السود. والمدينة تقع بين اللابتين: الشرقية والغربية. وفي الحديث المتفق عليه “المدينة حرم ما بين عير إلى ثور”. و”عير” جبل عند الميقات، و”ثور” جبل عند أحد ، من جهة الشمال .
وإلى جانب حرمي مكة والمدينة، لم يتنازع المسلمون في حرم ثالث إلا “وجاء، وهو واد بالطائف وهو عند الشافعي – ورجحه الشوكاني – حرم، ولكنه عند الجمهور ليس بحرم .
وحرمة نطاق الحرم هى حرمة ذاتية دائمة ومطلقة، تحقيقا لمطلب الأمن الذي اختصه الله به ، فقال:{أو أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آَمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} (العنكبوت:67)، وأما نطاق الحل والذي يتحدد بالمواقيت المكانية للإحرام، فهو بمثابة محمية مؤقتة خاصة وليست له حرمة ذاتية كسابقه .
حدود ونطاقات الحل والحرم بمكة المكرمة
وتعرف المحمية الطبيعية بأنها “وحدة بيئية محمية تعمل على صيانة الأحياء الفطرية نباتية وحيوانية وفق إطار متناسق”. والمتأمل لمخطط المحميات الطبيعة المعاصرة يجد أنه لا يبعد عن ذلك وإنما يتطابق معه إلى حد بعيد ، فمخطط المحمية يقسمها إلى منطقتين أساسيتين: أولهما: منطقة القلب أو النواة ، وهى تمثل البقية الباقية من النظام الحيوي في حالته الطبيعية، وهى منطقة يتم حمايتها حماية كاملة وصارمة، بحيث لا يسمح فيها بأي صورة من صور الاستغلال، وقد تتضمن المحمية أكثر من قلب أو نواة. وثانيهما: المنطقة العازلة(نطاق الوقاية- النطاق الانتقالي)، وهى المنطقة التي تدهور فيها النظام الحيوي، وهى المستهدفة من الحماية والصيانة بما يساعد على إعادة تأهيلها، ويتم حمايتها بشكل صارم بصورة مؤقتة حتى تستعيد طبيعتها، ومن ثم يسمح فيها باستغلال الموارد الحيوية وفق ضوابط مقننة تكفل استمرارية حماية الأحياء الفطرية.