زينب ضاهر ونُسَيبة نمش*
العدد التاسع والثلاثون – خريف 2016
حتى الثمانينات من القرن العشرين كان علماء الأعصاب يعتقدون أن التعاطف بين الناس هو وليد ما تراه أعينهم إذا أصيب شخص من المارّة، وأنه يقتصر على شعور عام وعقلاني بالحزن أو الألم لما يعانيه المصاب. إلى أن اكتشفوا في أوائل التسعينيات أن التعاطف أعمق من ذلك وأدق وأن المشاهد قد يشعر بما يعتري المصاب من مشاعر وأحاسيس بشكل مطابق. وأن ثمة خلايا عصبية في الرأس تعكس وبكل دقة كالمرآة ما تشعر به الخلايا العصبية عند الشخص الآخر. فلو جرح شخص امامنا قد يعترينا الألم ذاته الذي يعاني منه، وإن تذوّق شيئاً مقيتاً نشعر في أمعائنا بالغثيان ذاته الذي يشعر به المتذوِّق. لا بل إن هذه الخلايا العصبية المرآة تستطيع أن تعكس لنا نوايا الشخص الآخر وما قد يقدم عليه من قول أو عمل، وهنا الاكتشاف المذهل .
تقع هذه الخلايا المرآة في الشق الأيمن من واجهة المخ وتحديداً في الناحية الخلفية السفلى من الواجهة المذكورة(right posterior inferior frontal gyrus). وهي من الخلايا التي تثير النشاط الدماغي وتحرك عملياته.
انطلقت هذه الأبحاث عندما اكتشف أحد العلماء الإيطاليين من جامعة “بارما” أن نوعاً من قرود المختبر، وقد زرعت في أدمغتها أقطاب كهربائية، نشط لديهم هذا الجزء من المخ وهم قعود، لمجرد أن فكّر الباحث بالطعام وتحرك لجلبه قبل أن يروا شيئاً منه.
كشفت هذه البحوث عن مكان التفاعلات والأحاسيس والنوايا المتبادلة بين الناس من غير كلام وحتى دون أن تظهر قسمات ذلك على وجوه المتجالسين. حتى أن هذه الخلايا العصبية العاكسة تكشف لصاحبها صدق نوايا مجالسه وحقيقة مشاعره.
ساعدت هذه الاكتشافات في بحوث أخرى رديفة منها: التفاعلات الاجتماعية، وكيفية التعاطف مع الآخرين، ومزيد من الاكتشافات حول مرضي التوحد وانفصام الشخصية، وبعض الاضطرابات الأخرى للدماغ، ومعلومات جديدة حول تطور النطق والكلام، وإيجاد طرق جديدة لعلاج الذين تعرضوا للسكتة الدماغية وفي كيفية استعادتهم لحركاتهم التي فقدوها.
ولربما كانت منطقة الخلايا العصبية المرآة هذه هي التي تحتوي على العطل المؤدي إلى التوحد وانقطاع الاتصال مع العالم الخارجي للمريض. إذ أن هذه الخلايا لا يهزها الصوت او الضجة بقدر ما تؤثر فيها المشاعر والنوايا كما يقول د. غريغ هيكوك وهو احد المشككين بهذه النظرية.
كما تبين أن هذه الخلايا العصبية قادرة على حل رموز التعابير والقسمات التي تظهر على وجه المحدث (من عبوس أو اشمئزاز أو تكبر أو ارتياح)، حتى لو تظاهر بعكس ما يضمر.
يقول الباحث د. لاكوبوني، هذه الخلايا تبدو حتى الآن الخلايا الوحيدة في الدماغ القادرة على التواصل الاجتماعي بالخارج وفهم النوايا والمشاعر، وهي التي تبدو الأكثر تأثراً بأفلام الجنس وأفلام العنف مما قد يحدث تغييرات عميقة في نفس الانسان بسبب مشاهدتها. ولا شك في أن الخلايا العصبية العاكسة عند المشاهد سوف تولد لديه الرغبة لتقليد ما يراه من مشاهد الدم والعنف والإثارة.
لم تتوقف هذه الأبحاث ولا تزال مستمرة لتحديد دقة العلاقة بين ما تسجله الخلايا العصبية العاكسة وبين حالة التواصل والتعاطف التي يبديها طرفان متجاوران، ولتوفير رؤية جديدة رائعة في الآليات التي تكسبنا مزيداً من المهارات الاجتماعية والتواصل لفهم أعمق لمشاعر الآخرين ولنواياهم.
ذكرنا أعلاه ملخصاً لدراسات العقدين الأخيرين حول هذه الخلايا العصبية المرآة والعاكسة لنوايا ومشاعر من هم بجوارنا. ونخرج منها بأسئلة وخلاصات نعرفها من القرآن الكريم ومن حديث نبينا الرحيم صلى الله عليه وسلم ومن أخبار مشاهير رجالات السلف الصالح.
ففي كتاب الله تعالى ما يشير إلى طرق فهم الآخر ظاهراً وباطنا، يقول الله تعالى في سورة محمد:{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29)وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30)}.
ويقول جلّ وعلا في سورة آل عمران: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) }.
وينبّه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن النوايا لا تخفى على المؤمن وإن تخفّت تحت لين الكلام المعسول فيقول: “اتَّقُوا فِرَاسَةَ المُؤْمِنِ , فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ”، ثُمَّ قَرَأَ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر]: “، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ العِلْمِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ، قَالَ: لِلْمُتَفَرِّسِينَ ” (الترمذي والطبراني عن أبي أمامة وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ).
وفي الختام فإن هذا البحث يعطي التفسير العلمي ويزيل عجب المنكرين لقدرات كبار رجالات السلف الصالح في كشف نوايا مجالسيهم وفي التأثير عليهم وتعزيز إيمانهم وتنشيط همتهم. تماماً كما يظهر الأثر السلبي لمن يجالس أهل الغفلة والمعصية بحيث تفتر همته ويتكاسل في العبادات ولربما انتكس إيمانه ونقض عقيدته،
فعَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
“مَثَلُ الجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالسَّوْءِ، كَحَامِلِ المِسْكِ وَنَافِخِ الكِيرِ، فَحَامِلُ المِسْكِ: إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً، وَنَافِخُ الكِيرِ: إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً”. (صحيح البخاري (7/ 96).
*من أصدقاء منتدى الإعجاز العلمي في القرآن والسنة في لبنان.
المراجع:
البحث بعنوان: Mirror Neurons، صادر عن جمعية العلوم العصبيةSociety for Neuroscience بإذن من الباحث الدكتور ماركو لاكوبوني من مدرسة الطب في جامعة كاليفورنيا.
http://blogs.scientificamerican.com/guest-blog/whats-so-special-about-mirror-neurons/
رابط المقالة على شبكة الانترنت:
http://www.brainfacts.org/brain-basics/neuroanatomy/articles/2008/mirror-neurons/