العميد الدكتور محمد فرشوخ
الكلمة الأخيرة من العدد السابع والأربعون 47 خريف 2018
لاحظ الطلاب المتوافدون أن أستاذهم الحكيم قد سبقهم إلى القاعة، فالتزموا الهدوء وساد جوٌ من السكينة والوقار، ثم خرق الصمت فجأة رنين جوّال أحدهم بنغمة موسيقية راقصة تبعتها كلمات لمغنية ماجنة، أصابت حامل الجوال بإرباك شديد؛ عالج الحكيم الموقف بابتسامة خفيفة فرجت اسارير الطلاب واستعاد الحاضرون هدوءهم وسكينتهم.
كان المشهد كافياً ليغتنم الحكيم الفرصة وينطلق إلى مشكلة العصر الأولى: كيفية التعامل مع مواقع التواصل، قال:
كان السلف الصالح يتأهبون ويحذرون، كلما بدت ظاهرة جديدة او اكتشاف او حتى علم جديد، يعرضون ذلك على كتاب الله وعلى هدي رسول الله، ثم على العقل والمنطق، فإذا وجدوا فيه خيراً لدينهم أو دنياهم أقروه واعتمدوه. وإذا وجدوا فيه ما يخالف شرع الله أو ما يحرف عن دين الله، أو ما يلهي الناس عن ذكر الله، حذروا منه وكرّهوا فيه حتى انهم كانوا يُصدِرون الفتاوى إذا ما اضطروا لنهي الناس عن الانغماس فيه والسعي إليه.
فكيف لو يروا الذي حل بالناس في هذه الأيام؟
صبية وصبيات يحملون الموبايلات، هاتف خاص لكل فتى وفتاة، موصول على الانترنت يتصل عبره بمن يشاء من الصين إلى الولايات. يسامرونه ثم يغازلونه ثم يتحرشون به ثم يستغلونه.
صبية موصولون بشياطين الأرض يشرِكونهم في ألعاب بريئة الظاهر خطيرة لدرجة تدفع الصبي إلى الانتحار.
أطفال أعمارهم بين السنتين والثلاث سنوات، يتلقون لوحة ذكية، كهدية، تسمى الآي باد، تدمر شخصية الطفل وتتلف بصره وسمعه، تعزله عن أهله وأقرانه، وتفتح له أبواب الشيطان وأعوانه، إلى أن يصبح مدمناً، وتقتصر اهتماماته على الألعاب والأغاني، ثم تراه بعد بضع سنوات، يتآلف مع ألعاب الحروب والقتل وسفك الدماء، وعندما يصل إلى سن المراهقة يصبح بحاجة للمعالجة النفسية من شدة التوتر والعصبية.
أين الآباء وأين الأمهات؟
هم أيضاً في مأزق لا بل في غيبوبة، يحملون هواتفهم الذكية من غرفة إلى غرفة لا يتخلون عنها لا عند الطعام ولا عند المنام وحتى في الحمام. فرحين انهم انفتحوا على العالم ونسوا انهم صاروا هم أيضاً ضحية، إعلام يغزوهم في عقر دارهم، يغسل ادمغتهم ببطء، يغير عاداتهم ويتلاعب بمعتقداتهم، يعرّفهم على الحياة المترفة، فيروا حياتهم مقرفة، لم تعد تعجبه زوجته، ولا ترضيه ابنته، يريدهم ان يتصرفوا كالمشاهير مشيةّ ولباساً وحديثاً ولغةً ولكنةً.
صار يصوّر للناس ويكتب: أين سهرنا وأين تعشينا وماذا أكلنا وكيف لبسنا ورقصنا وغنينا. ذاك صار مقياس الحضارة والسعادة.
أما الزوجة والأم فقد ألهاها ما يجري في العالم عما يجري في بيتها ومع أولادها ومع خادمتها فصارت الخادمة سيدة البيت والسائق هو الخافق الرافق. ولم يعد تعليم الأولاد همها الأول ولا الطعام الصحي مشكلة، فالوجبات السريعة جاهزة، وتصل إلى البيت قبل ان يسخن الطعام، وعلى صحة العائلة السلام.
قال تعالى في سورة الكهف: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)}.
من ظن أن في الأمر مبالغة فليقم بزيارة المحاكم الشرعية والعيادات الطبية النفسية فيعجب لنسبة الطلاق المرتفعة وحالات اليأس والبؤس والانتحار، من مختلف الأعمار.
قد أدخلنا الشياطين إلى بيوتنا بأيدينا، ونحن نفاخر بأننا متمدنين ولتقنيات العصر متابعين.
نعم المعرفة ضرورية لكن أية معرفة فالذي يريد أن يعرف كل شيء لن ينفع في شيء، أصبح كجريدة الأخبار عنده من كل شيء، ليقال عنه انه فهيم، لكنه في حق نفسه وأهله عديم.
التواصل الاجتماعي كذلك ضروري لكن مع من وإلى أي حد؟ نتواصل مع غرباء في بلاد العالم وقد قطعنا الأرحام، وأهملنا الجد والأخوال والأعمام.
نسينا الخروج إلى الهواء الطلق وزيارة الأهل وعيادة المرضى وقضاء حوائج الناس وسجنّا أنفسنا بين الجدران ونحن نظن أننا نحسن صنعا، حتى وصل الأمر بنا إلى أن نؤخر الصلاة بانتظار مكالمة، وننام إلى ما بعد الشروق بسبب الصداع من أثر السهر مع الشاشة الزرقاء. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مثل هؤلاء: “ذاك رجلٌ بال الشيطان في أذنه”.
تكلم صديقتها وقد حسرت عن رأسها، يتبادلون المحادثات وهم بالثياب الداخلية، من داخل غرف النوم ونسوا أنهم يحملون بأيديهم أسلحة العدو المدمرة، صارت صورهم محفوظة وتستعمل عند اللزوم، وأخبارهم معروفة ومشاكلهم مفضوحة إذ ثمة من يسمع ويرى ويسجل.لا ينبغي التعامل مع هذه الوسائل ببراءة أقرب منها إلى الغباء. تغطي رأسها عندما يطرق الباب رجل غريب، وقد كشفتِ المستور للعالم كله.
أدخلوا الجوال إلى غرف النوم، ونسوا انه ينقل الصوت وهو مقفل، فأسمعوا المتنصتين ما لا ينبغي أن تسمعه الشياطين.
نعم لاستعمال وسائل التواصل لكن لقضاء الحاجات والاطمئنان وترتيب المواعيد. نعم لكن خلال وقت قصير لا يلهي عن واجبات العائلة والتربية والسلامة والأخلاق. نعم لكن ليس للأطفال لأنه سيتسبب لهم بأمراض صحية ونفسية. نعم لمراقبة ما يشاهده المراهقون والمراهقات من أولادنا، نعم لكن نقاطع المشاهد الخلاعية، نحن قبل بقية العائلة قال تعالى في سورة النور:{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْآبَائِهِنَّأَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ…} إلى آخر الآية.
نعم لاستعمال وسائل الاتصال شرط أن نسيّرها لا أن تسيّرنا، وأن نسيطر عليها لا أن تعمي قلوبنا، وأن تخفف عنا متاعب الحياة لا أن تزيدها، وأن توفر علينا عناء الانتقال، لا أن تنقلنا لنعيش في الوهم، وتنقل أخبارنا وأسرارنا إلى آخر المعمورة، صوتاً وصورة.
ختم الحكيم بالدعاء: “اللهم استرنا ولا تفضحنا، عافنا واعف عنا، نوّر قلوبنا وعقولنا ووسع مداركنا، حتى نميز الخبيث من الطيب، فلا نتورط ولا نتضرر ولا نزِلّ ولا نُذَلّ. اللهم ألهمنا ما تحب واصرفنا عما لا تحب، ألهمنا دوام ذكرك ووفقنا لكمال طاعتك”. وانتهت الجلسة.