د. رفيق المصري*
مقدمة
من الشبهات المثارة حول التشريع الإسلامي انه لا يصلح في العصر الحديث. على سبيل المثال قوله تعالى: { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } ( سورة البقرة، آية228) فإذا كان الهدف من قضاء المرأة للعدة قبل الزواج من شخص آخر هو إستبراء الرحم من الحمل فهذا أصبح أسهل ما يكون إذ بالعلم الحديث يمكن معرفة هل المرأة حامل أم لا من خلال التحاليل الطبية .
وقد تم الرد على هذه الشبهة، فقد أثبتت الدراسات الحديثة أن ماء الرجل يحتوي على 62 نوعاً من البروتين وأن هذا الماء يختلف من رجل إلى آخر فلكل رجل بصمة في رحم زوجته. وإذا تزوجت من رجل آخر بعد الطلاق مباشرة، قد تصاب المرأة بمرض سرطان الرحم لدخول أكثر من بصمة مختلفة في الرحم، وقد اثبتت الابحاث العلمية أن أول حيض بعد طلاق المرأة يزيل من 32 % الى 35 %، وتزيل الحيضة الثانية من 67% الى 72% منها، بينما تزيل الحيضة الثالثة 99.9% من بصمة الرجل، وهنا يكون الرحم قد تم تطهيره من البصمة السابقة وصار مستعداً لاستقبال بصمة أخرى.
أما عن عدة المتوفي عنها زوجها في قوله تعالى : { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } ( آية: 234 سورة البقرة ) فقد أثبتت الأبحاث أن المرأة المتوفى عنها زوجها بحزنها عليه وبالكآبة التي تقع عليها هذا يزيد من تثبيت البصمة لديها وقالوا أنها تحتاج لدورة رابعة كي تزيل البصمة نهائيا، وبالمقدار الذي قال عنه الله عز وجل تقريبا أربعة أشهر وعشرا.
تعريف العِدّة:
العِدّة في اللغة من العدَ، وهو الحساب أو الإحصاء. والعِدّة تعني: العَدد. قال تعالى: {إن عِدّة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا} (التوبة 36). وقال تعالى: {قل رب أعلمُ بعِدّتهم} (الكهف 22). والعِدّة هنا في الاصطلاح مدة محددة لا يجوز فيها للمرأة المطلقة أو المتوفى عنها زوجها أن تتزوج فيها من زوج آخر.
وذكر القرآن الكريم أربع عِدد للمرأة:
-عِدّة وضع الحمل.
-عِدّة 3 أقراء.
-عِدّة 3 أشهر.
-عِدّة 4 أشهر و 10 ليال.
– عِدّة المطلقة الحامل
نصّ القرآن الكريم على عِدّة المطلقة الحامل. قال تعالى: {وأولاتُ الأحمال أجلُهن أن يضعنَ حَملهنّ} (الطلاق 4). أي المطلقات الحوامل عِدّتهن إلى وضع الحمل. من أين عرفنا أن هذه الآية في المطلقات؟ السورة اسمها (الطلاق)، وأول آية منها: {يا أيها النبي إذا طلّقتم النساء فطلّقوهن لعِدّتهن وأحصوا العدّة}، ونحن في الآية الرابعة من السورة. فالآية وردت إذن في المطلقة الحامل. والحامل إذا طُلقت فقد تضع حملها بعد دقائق أو بعد أشهر.
عِدّة المتوفى عنها زوجُها:
كما نصّ القرآن على عِدّة المتوفى عنها زوجها. قال تعالى: {والذين يُتوفّون منكم ويَذرون أزواجًا يتربّصن بأنفسهنّ أربعة أشهر وعشرًا} (البقرة 234). أي: على هؤلاء الأزواج (الزوجات) أن يحبسن أنفسهن عن الزواج وأمورٍ أخرى مدّةَ العِدّة: أربعة أشهر وعشرًا. أي: وعشر ليال. (…)
لماذا 4 أشهر وعشر؟
يقول بعض العلماء (ابن عاشور في التفسير والموسوعة الفقهية): (الحمل يكون نطفة 40 يومًا، ثم علقة 40 يومًا، ثم مضغة 40 يومًا، ثم تنفخ فيه الروح، فيكون المجموع 4 أشهر، والـ 10 ليال للاحتياط). لكن هذا القول لا أعتقد أنه صحيح، لأنه يفترض أن هذه المدة (4 أشهر وعشر) كلها لاستبراء الرحم (من أجل حفظ الأنساب أو تمييزها)، والصحيح أن 3 أشهر لاستبراء الرحم (كما في عدّة المطلقة غير الحامل: سورة البقرة 229 والطلاق 4)، والباقي للإحداد. وهذا أيضًا بافتراض أن هذه المدة (3 أشهر أو قروء) للاستبراء فقط، أي لا يدخل فيها مدة خاصة بالرجعة في الطلاق الرجعي. وهذا الافتراض الأخير قد يكون صحيحًا، لأن مدة الاستبراء قد تكون أصلية، ومدة الرجعة تابعة لها. ومما يرجّح هذا المعنى أن مدة الـ 3 أشهر لم تفرّق بين طلاق رجعي وطلاق غير رجعي. ولو طلق رجل زوجته وكانت حاملاً، فوضعت حملها بعد لحظة لم تزد عِدّتها على هذه اللحظة، أي لا يكون هناك مجال لرجعة الزوج.
عِدّة الحامل المتوفى عنها زوجُها:
المهم هنا أن القرآن نصّ على عِدّة المطلقة الحامل، ونصّ على عِدّة المتوفى عنها زوجُها، ولم ينصّ على التي جمعت بين الأمرين، أي على (الحامل) (المتوفى عنها زوجُها). هل عِدّتها كعدّة المطلقة الحامل: وضع الحمل؟ أم عِدّتها كعدّة المتوفى عنها زوجُها: 4 أشهر وعشر؟ أم عِدّتها أبعد الأجلين؟ أم أقرب الأجلين؟ أم هناك رأي آخر؟
-إذا قلنا: عِدّتها وضع الحمل، وهو قول جمهور الفقهاء، فقد تضع حملها بعد ساعة! أين هذا من 4 أشهر وعشر؟ والحكمة من هذه المدة استبراء الرحم والإحداد على الزوج المتوفى. فوضع الحمل تَحقق فيه الاستبراء ولم يتحقق فيه الإحداد. ولا أرى صحة ما استدل به جمهور الفقهاء بأن الحكمة من العدة براءة الرحم فقط، لا سيما وأن عدة المتوفى عنها زوجها قد زادت على غيرها بـ 40 يومًا، وهو الفرق بين 4 أشهر و 10 ليال وبين 3 أشهر.
الإحداد مأخوذ من الحدّ، وهو الحاجز بين شيئين، أو المنع، أي على الزوجة أن تمتنع عن جميع مظاهر الزينة والإغراء وألا تخرج من بيت زوجها إلا لحاجة، وأن تُظهر حزنها على زوجها. وكانت المرأة في الجاهلية تُحِدّ على زوجها حولاً كاملاً. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يَحِلّ لامرأة تؤمن بالله ورسوله أن تُحِدّ على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرًا) متفق عليه. فيجوز (يباح) للمرأة الإحداد على الأب والابن والأخ والأقارب ما لا يزيد على 3 أيام إلا الزوج فيجب فيه الإحداد أربعة أشهر وعشرًا. يصح في اللغة أن يقال: حدّتْ على زوجها، وأحدّتْ (أي الفعل ثلاثي أو رباعي( .
-وإذا قلنا: عِدّتها 4 أشهر وعشر، فقد تمرّ هذه المدة ولا تضع حملها! فمرور المدة تَحقق فيه الإحداد، ولم يتحقق فيه الاستبراء بوضع الحمل.
-وإذا قلنا: عِدّتها أقرب الأجلين، فقد يكون وضع الحمل أقرب بكثير، كأن تضع حملها بعد ساعة! ففي هذا الرأي لم يتحقق الإحداد.
-وإذا قلنا: أبعد الأجلين، فإذا وضعت الحمل قبل مرور 4 أشهر وعشر عليها أن تنتظر حتى 4 أشهر وعشر. وإذا مرت 4 أشهر وعشر ولم تضع حملها عليها أن تنتظر وضع الحمل. فوضع الحمل هو البراءة الفعلية للرحم، وهذا يعني أن براءة الرحم فيها معنيان: الأول حفظ الأنساب، والثاني خروج الولد (الولادة). والقول بأبعد الأجلين هو الأفضل من بين الأقوال المأثورة، وسائر الأقوال غير صحيحة، والله أعلم.
ولكن هناك رأي آخر سأطرحه للنقاش
خلاصة هذا القول (المذهب) هو: وضع الحمل شريطة ألا يكون قبل 4 أشهر وعشر. فإذا وقع الحمل قبل ذلك لم نأخذ به بل نأخذ بأربعة أشهر وعشر، وإذا زادت مدة الحمل على 4 أشهر وعشر أخذنا بها وتركنا الـ 4 أشهر وعشرًا، بل الأخذ بالحمل في هذه الحالة يتضمن الأخذ بـ 4 أشهر وعشر. هذا هو معنى أبعد الأجلين، وهو المعنى الذي يتحقق فيه الأمران معًا.
قولان للعلماء في عِدّة الحامل المتوفى عنها زوجُها
-القول الأول قول جمهور الفقهاء بأن عِدّة الحامل المتوفى عنها زوجُها تنقضي بوضع الحمل، حتى لو وضعت بعد ساعة!
حجتهم الأولى قوله تعالى: {وأولاتُ الأحمال أجلُهنّ أن يضعن حَملهن} (الطلاق 4). أقول: وردت هذه الآية (آية الطلاق 4) في المطلقة، ولم ترد في المتوفى عنها زوجُها التي وردت فيها (آية البقرة 234). ولا يُقبل القول بأن إحدى الآيتين تخصص الأخرى.
وحجتهم الثانية أن المقصود من العِدّة براءة الرحم. أقول: هذا غير مسلّم، ففي المتوفى عنها زوجُها مقصد آخر وهو الإحداد، بدلالة زيادة مدة العِدّة بمقدار 40 يومًا.
-القول الثاني أنها تعتدّ بأبعد الأجلين.
أقول: هذا القول أفضل من سابقه وأقرب إلى الصواب، ولكني أضيف قولاً ثالثًا لعله يكون أفضل وأقوى من الاثنين معًا.
إضافة قول آخر
أرى أن الحامل المتوفى عنها زوجُها إذا مرّت مدة الـ 4 أشهر والـ 10، ولم تضع حملها، فعِدّتها لا تتم إلا بأن تضع حملها. أما إذا وضعت حملها سريعًا، أي خلال دقائق أو أي مدة أخرى أقل من 4 أشهر و10، فإنها تضيف إلى عدتها 40 يومًا فقط أو المدة المتبقية من الـ 4 أشهر والـ 10 أيهما أقرب، لأن براءة الرحم تحققت بوضع الحمل، ولأن انتظار رجعة الزوج غير واردة لأنه توفي، ولأن مدة 40 يومًا هي الزيادة التي أضيفت إلى الـ 3 أشهر لأجل الحِداد على الزوج، والله أعلم. (…)
__________________________________
* يعبر هذا المقال عن رأي صاحبه، وهو قابل للنقاش.