د. محمد السقا عيد*
آية من آيات الله العظيمة، العين وما في محيطها من أعصاب وما يغطيها من جفون ورموش ورقاقة جلدية خاصة. والله سبحانه وتعالى يدعو الإنسان للتبصر والتمعن بما أنعم عليه من قدرات معجزة فقال: (وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون).
لقد أجريت الأبحاث الحديثة على هذا السائل لفهم تركيبه ومحتوياته وما زال العلم يخبئ في جعبته الكثير والكثير عنه مما لا نعرفه. ويتكون الجهاز الدمعي من جزأين.
الجهاز الدمعي
1. القسم المفرِز للدموع Secretory part
يشتمل القسم المفرز للدموع على:
– الغدة الدمعية التي توجد في تجويف مخصص لها في عظمة الجبهة الموجودة في سقف الحاجب (Orbit) عند الناحية العلوية الطرفية.
ويمكن رؤيتها عند قلب الجفن العلوي من خلال الملتحمة ولكن لا يمكن تحسسها من خلال جلد الجفن إلا إذا كانت متضخمة أو ساقطة عن مكانها.
وتتكون الغدة الدمعية من فصين علوي وسفلي وهما عبارة عن مجموعة فصيصات صغيرة بها غدد متكيسة (Acinious) تفتح مباشرة على قناة لإفراز الدموع، وإذا استؤصل الجزء الجفني فإن القنوات تستأصل معه وبالتالي فإن الإفراز الدمعي يبطل بتاتًا ويصير وكأن الغدة كلها قد استؤصلت من الجزء الحجابي.
ويفصل الفصان عن بعضهما البعض العضلة الرافعة الجفنية Levator Palpebrae Superioris التي تمتد بينهما من الخلف، ولكنهما يتحدان مع بعضهما من الأمام.
وتوجد حوالي 10-15 قناة صغيرة لإفراز الدموع تتواجد بين الفصين العلوي والسفلي وتفتح على سطح الملتحمة المغطي للفص السفلي للجفن.
– الغدد الدمعية المساعدة التي يبلغ عددها 48 غدة 40 منها في الجزء العلوي من العين و 8 تسكن في الجزء السفلي، وتكون مزروعة في جذور الرموش وفي أطراف الجفون والقبوة العلوية والسفلية للملتحمة.. (والقبوة: هي أسفل الجفن العلوي أو السفلي من الداخل).
والفرق بين الغدة الرئيسية والغدد المساعدة كبير وأساسي على الرغم من أنها جميعًا تفرز الدموع… فالغدة الرئيسية تفرز الدموع الناتجة عن الانفعالات العاطفية والمؤثرات الخارجية “الأجسام الغريبة”. وهي تتلقى أوامرها الطارئة من الدماغ مباشرة.. بمعنى أنها لا تعمل إلا بحدوث أمر ما يترجمه الدماغ إلى أمر بذرف الدموع.. أما الغدد الدمعية المساعدة فإنها تعمل بشكل تلقائي ورتيب ومهمتها تغذية العين بالرطوبة اللازمة.. على مدار الساعة وبشكل مستمر.
2. القسم المصرِّف للدموع Drainge Part
يتكون الجزء المصرف للدموع (المسالك الدمعية) Drainge System من: النقطة الدمعية – القنوات الدمعية – الكيس الدمعي – الماسورة الدمعية الأنفية.
القنوات الدمعية:
وتتكون من قناتين علوية وسفلية تتواجدان في نهاية الجزء الوسطي من حافة الجفن، وتتكون كل قناة من جزء عمودي ثم جزء أفقي. ويمتد الجزء العمودي من القناة الدمعية لمسافة 1-2 ملليمتر بادئًا من النقطة الدمعية ثم يغير اتجاهه فيصير أفقيًا لمسافة 2-3 ملليمتر.
ويبدأ الجزء العمود من النقطة الدمعية ويمتد لمسافة 1-2 ملليمتر ثم يغير اتجاهه فيصير أفقيًا لمسافة 2-3 ملليمتر.
الكيس الدمعي:
تتقابل الأجزاء الدمعية من كل قناة ويدخلان الكيس الدمعي متحدين معًا في جداره الوسطي، ويبلغ طول الكيس الدمعي من 10-12 ملليمتر، ويقع في الحفرة الدمعية العظيمة (Lacrimal Fossa) الواقعة في العظمة الدمعية (Lacrimal Bone).
ويتكون الكيس الدمعي من جزئين: الفنطاء (Fundus) وجسم الكيس (Body of the Sac) ويضيق الكيس الدمعي عند اتصاله بالماسورة الدمعية الأنفية حتى يتلاءم مع حجمها.
الوصلة الدمعية الأنفية:
وتبدأ عند نهاية الكيس الدمعي وتمتد إلى أسفل لتفتح في الميزاب السفلي للأنف، وطولها يعادل طول الكيس الدمعي 12 ملليمتر، ويوجد بها صمامان على بدايتها ونهايتها، ووظيفتهما الحد من ارتداد السوائل والافرازات إلى الكيس الدمعي.
أنواع الدموع:
يوجد نوعان أساسيان من الدموع تنبثق منهما جميع الأنواع الأخرى هما:
الدموع الأساسية أو الصُحية: وهي دموع إجبارية وثابتة في نوعيتها وكميتها… وهي التي تفيض من عيون جميع البشر، تفرزها الغدة الدمعية بانتظام وتصرف من العين أيضًا عن طريق مجرى الدموع وهي تتسلل إلى داخل الأنف والحلق. وليس هناك أدنى خوف من هذه الدموع التي تذرفها العين بغزارة.
الدموع الانعكاسية: وهي تحدث إما نتيجة انفعال فيتحكم في ذلك الجهاز العصبي أو نتيجة تعرض العين لزيادة في الضوء أو لمادة تؤدي غلى تهيج العين مثل النشادر أو البصل، أو بعض الغازات أو الكيماؤيات… إلخ.
الدموع الغالية: مبدؤها قلوب مشفقة، وعقول متدبرة، وألسن تالية، وشفاه مسبحة، ومن بعد عيون دامعة،… إنها صافية اللون، لؤلؤية البريق، نتحدر على الوجنات، وتمتزج بشهيق العبرات.
صورة رسمتها رواية العرباض بن سارية رضي الله عنه حين قال: (وعظنا رسول الله صلى الله عليّه وسلم يومًا بعد صلاة الغداة موعظة بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب).
آخر الدراسات النفسية عن الدموع:
خلصت هذه الدراست إلى بعض الحقائق الهامة التي تهمنا والتي سنورد منها ما يلي: يتجدد مشهد الدموع داخل عينيك (13 ألف مرة) في اليوم الواحد… لذلك من لا يبكي أبدًا ولا تتساقط دموعه فإنه يعاني حقًا من ظاهرة مرضية غير طبيعية.
هناك شعوب لا تبكي كثيرًا مثل الشعب الفرنسي الذي لا يبكي منه إلا 8%.
والذي يبكي هو الذي يُمزق كل الأقنعة والاعتبارات وكل الأدوار الإجتماعية.
إذا أحببت هذا النبع الغامض (الدموع) فإنك تمسح قسوة نفسك على ذاتها، وبالتالي على بقية البشر القول: “إن من لا يعرف الدموع لا يعرف الرحمة”. وإن الذي لا يبكي عندما يتألم فإنه يتألم أكثر لأنه يشعر بالألم مرتين.
الإنفعالات المؤلمة والعنيفة لا بد وأن تظهر من خلال العينين، وهي دائمًا تكون أقوى من أي حوار صادق لأنها في الواقع عبارات تترجم نبضات القلب تجاه الموقف.
إن نقطة الدموع التي تنساب من العين يوميًا وبطريقة آلية ضرورية جدًا لنظافة العين وتشحيمها… وإن اختلاج الجفون الذي يحدث ما بين عشر مرات إلى خمس عشرة مرة في الدقيقة يعمل على توزيع الدمع بالتساوي على قرنية عين الإنسان الطبيعي الذي يبكي حينما يشعر بذلك ولا يحبس الدموع.
فوائد الدموع:
• تحافظ الدموع على شفافية القرنية وحمايتها من الجفاف.
• تساعد على مرونة حركة الجفون العلوية والسفلية.
• تساعد على طرد أي مواد مهيجة للعين مثل ذرات الدخان أو الأتربة.
• تقوم عن طريق الغدة الدمعية بإدرار الدموع وطرد هذه الأجسام الغريبة لتعود إلى شفافيتها.
• تساعد أيضًا على حمايتها كأداة لتطهيرها بصورة مستمرة.
• تساعد على وضوح الرؤية وقوة ودقة الإبصار.
• تخلص الجسم من المواد الكيماوية المتعلقة بالضغط النفسي.
• أيضًا أكدت دراسة لعالم النفس البريطاني دان لوينز أن الدموع هي أحد أهم الوسائل التي تعيد للإنسان استقراره النفسي، في حين أن علماء فسيولوجيا الإنسان يشيرون إلى فوائد أخرى للدموع، فالدموع تعمل على التخلص من أنواع كثيرة من البكتيريا.
وقد أسفرت التجارب التي قام بها عدد من العلماء عن ظهور علم جديد هو “علم الدموع” الذي انعقد أول مؤتمر طبي له عام 1985م بالولايات المتحدة تحت شعار: “ابك تعش أكثر” حيث دعا المؤتمر إلى أن يصبح تحليل الدموع من التحاليل الطبية الشائعة مثل تحليل الدم وتحليل البول لأن نتائجه تقدم للطبيب معلومات وافية عن حالة الجسم.
وقد أكدت آخر الأبحاث التي أجرتها جامعة “ميتسونا”… أن الدموع هي أفضل طريقة للتخلص من المواد الكيماوية المصاحبة للتوتر النفسي والقلق التي يفرزها الجسم في أوقات الحزن والغضب.
كما ثبت أن البكاء يزيد من عدد ضربات القلب وهو في حد ذاته يُعد تمرينًا مفيدًا لعضلات الصدر والكتفين والحجاب الحاجز… وعند الانتهاء من البكاء يعود القلب إلى حالته الطبيعية وتسترخي عضلات الصدر.
البكاء بين القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة:
إن البكاء آية من آيات الله عز وجل في النفس الإنسانية، مثله تمامًا مثل الحياة والموت والخلق، فهو القائل سبحانه: (وأنَّهُ هو أضحك وأبكى، وأنّه هو أمات وأحيا، وأنَّهُ خلق الزَّوجين الذَّكر والأنثى) [سورة النجم 43 – 45]
فهو سبحانه الذي خلق البكاء ودواعيه، وجعله ظاهرة نفسية عامة ومشتركة لدى جميع البشر على اختلاف ألوانهم وأشكالهم وألسنتهم ومذاهبهم وبيئاتهم، فالبكاء لغة عالمية لا تختلف باختلاف الألسن أو الثقافات أو البيئات، فالجميع يبكون بنفس الطريقة ولنفس الأسباب غالبًا.
البكاءُ فطرةٌ بشريةٌ كما ذكر أهل التفسير:
فقد قال القرطبي في تفسير قول الله تعالى: (وأنّه هو أضحك وأبكى) [النجم الآية 43] أي: قضى أسباب الضحك والبكاء.
وقال عطاء بن أبي مسلم: يعني: أفرح وأحزن؛ لأن الفرح يجلب الضحك والحزن يجلب البكاء.. تفسير القرطبي (17/116).
وبما أن البكاء فعل غريزي لا يملك الإنسان دفعه غالبًا فإنه مباح بشرط ألا يصاحبه ما يدلٌّ على التسخُّط من قضاء الله وقدره، لقول النبي صلى الله عليّه وسلم: “إنَّ الله لا يُعذّبُ بدمع العين ولا بحزن القلب، ولكن يُعذّب بهذا – وأشار إلى لسانه – أو يرحمُ” البخاري (1242) ومسلم (924).
يقول ابن القيم: البكاء أنواع:
– بكاء الرحمة والرقة – بكاء الخوف والخشية – بكاء المحبة والشوق – بكاء الفرح والسرور.
– بكاء الجزع – بكاء الحزن – بكاء الخور والضعف – بكاء النفاق – البكاء المستعار – وبكاء الموافقة.
فلو شعرت بالبكاء… حاول أن تبكي، فهذا لن ينقص من رجولتك ولن يقلل من قدرك. على العكس سيستريح فؤادك وتشعر بالراحة والسكينة كما أن البُكاء من خشية الله تعالى يلين القلب ويذهب عنه أدرانه وهذه حقيقة لا مراء فيها.
قال يزيد بن ميسرة رحمه الله: “البكاء من سبعة أشياء: البكاء من الفرح، والبكاء من الحزن، والفزع، والرياء، والوجع، والشكر، وبكاء من خشية الله تعالى، فذلك الذي تُطفئ الدمعة منه أمثال البحور من النارّ”.
وردت مادة البكاء في القرآن الكريم 6 مرات، في قوله تعالى:
– (وأنه هو أضحك وأبكى) [النجم 43]
– (فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين) [الدخان 29]
– (إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجداً وبكياً) [مريم 58]
– (ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعاً) [الإسراء 109]
– (فليضحكوا قليلاُ وليبكوا كثيراُ جزاء بما كانوا يكسبون) [التوبة 82]
– (وجاءوا أباهم عشاءاً يبكون) [يوسف 16]
وورت مادة الدمع في القرآن (مرتين) في قوله تعالى:
– (تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً) [التوبة 92]
– (وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع) [المائدة 83]
كما ورد في السنة النبوية الشريفة:
في حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “عينان لا تمسهما النار عين بكت في جوف الليل من خشية الله.. وعين باتت تحرس في سبيل الله تعالى” رواه الترمذي (1639).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليّه وسلم: “لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع، ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم) رواه الترمذي.
ولا ننسى بكاء النبي الكريم لوفاة ابنه إبراهيم، مما يدل على أن البكاء ليس عيبًا أو نقصًا في الرجل كما يظن البعض، بل قد يكون عبادة نتقرب بها إلى الله تعالى.
نعم إن الله سبحانه لم يخلق أي عضو – في أجسامنا – إلا بإحكام وتقديم لكي يلائم وظيفته. فسبحان المبدع الخالق جل شأنه.
وصدق الله العظيم القائل: (إنا كل شيء خلقناه بقدر) [القمر – 49]
(وفي أنفسكم أفلا تبصرون) [الذاريات – 29]
______________________________
* استشاري طب وجراحة العيون. عضو الجمعية الرمدية المصرية. وللراغبين بمتابعة البحث بكامله مع المراجع كاملة العودة الى الموقع www.eajaz.org